
العالم العربي الإسلامي وإعادة تشكيل تحالفات حضاريّة: كيف نبني مشروعًا عالميًا للعيش المشترك؟
بقلم..عبد الله مشنون كاتب صحفي مقيم بايطاليا
في تحليل هذا الموضوع؛ ننطلق من السؤال: هل يمكن تجاوز الانقسامات نحو شراكة حضاريّة حقيقيّة؟
في عالم يسوده التوتر والصراعات، تبرز الحاجة إلى تحالفات حضاريّة لا تقوم على منطق الهيمنة أو التصادم، بل على أسس الاحترام المتبادل والتفاعل الخلّاق. لكن كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل اختلافات ثقافية ودينية وسياسية عميقة؟ وهل يمكن للعالم الإسلامي أن يكون طرفًا فاعلًا في صياغة نموذج جديد للعيش المشترك، بدلًا من أن يظل رهينة ثنائية العزلة أو التبعية الثقافية؟
إن التحالفات الحضارية الناجحة لا تُبنى على مجرد التسامح السلبي، حيث يكتفي كل طرف بقبول وجود الآخر، بل تتطلب خلق مساحات للحوار والتفاعل تسمح بالتبادل الثقافي والإبداع المشترك. غير أن تحقيق هذا الهدف يواجه تحديات بنيوية تتعلق بغياب رؤية استراتيجية واضحة، واستمرار خطاب الصدام الحضاري، وهيمنة منطق المركزية الثقافية الغربية.
الإشكال المطروح: لماذا فشلت محاولات بناء تحالفات حضاريّة متينة؟
شهد العالم العديد من المبادرات التي سعت إلى تعزيز التفاهم بين الشعوب، مثل حوار الحضارات الذي طرحه الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، أو مبادرات التبادل الثقافي بين الشرق والغرب، لكن هذه المحاولات غالبًا ما بقيت في إطار الخطاب النظري، دون أن تترجم إلى مشاريع عملية مستدامة.
فما الذي يعيق بناء تحالفات حضارية حقيقية؟ يمكن تلخيص أهم العقبات في النقاط التالية:
– هيمنة منطق الصدام الحضاري:
رغم الدعوات المتكررة للحوار، لا يزال الخطاب السائد في العلاقات الدولية يستند إلى رؤية صراعية، حيث يتم تصوير بعض الثقافات على أنها تهديد للآخر.
– غياب الإرادة السياسية الحقيقية:
تتحكم المصالح السياسية والاقتصادية في صياغة التحالفات، مما يجعلها رهينة لموازين القوى بدلًا من أن تكون مشاريع ثقافية طويلة الأمد.
– عدم التكافؤ في التبادل الثقافي:
هناك ميل لأن تكون العلاقة بين الحضارات علاقة أحادية الاتجاه، حيث تفرض ثقافة معينة قيمها ومعاييرها على الآخرين دون أن يكون هناك تفاعل متوازن.
– ضعف المؤسسات الثقافيّة العابرة للحدود:
لا توجد آليات كافية لتعزيز التفاعل الثقافي والفكري بين الشعوب بشكل مستدام، مما يجعل الجهود مبعثرة وغير فعالة.
نحو نموذج جديد للتحالفات الحضارية: أي شروط لتحقيق التوازن؟
إذا كان الهدف هو بناء تحالفات حضارية تقوم على الاحترام المتبادل والتفاعل الإيجابي، فما هي الشروط التي يجب أن تتوفر لضمان نجاح هذا المشروع؟
1. التعددية الثقافية كقاعدة أساسية:
ينبغي الاعتراف بأن كل ثقافة لها قيمتها الخاصة، وأنه لا يمكن اختزال التنوع الثقافي في نموذج واحد يُفرض على الجميع.
تحقيق التكافؤ في الحوار: لا يمكن أن يكون الحوار بين الحضارات مجرد وسيلة لفرض رؤية معينة، بل يجب أن يكون تفاعلًا متبادلًا يتيح لكل طرف التعبير عن هويته ومساهماته الفكرية.
2. إرساء شراكات ثقافية واقتصادية متوازنة:
ينبغي أن يكون التعاون بين الشعوب مبنيًا على مصالح مشتركة، وليس على منطق الاستغلال أو التبعية.
3. تعزيز التعليم والتواصل بين الشعوب:
على المؤسسات أن تلعب التعليمية والإعلامية دورًا في تقريب الثقافات، عبر مناهج دراسية وإنتاجات فكرية وفنية تعزز الفهم المتبادل.
العالم العربي الإسلامي وإعادة تشكيل التحالفات الحضارية: هل هناك رؤية استراتيجية؟
يشكل العالم الإسلامي كتلة حضارية تمتلك إرثًا ثقافيًا غنيًا، لكنه لا يزال يواجه تحديات في الانخراط الفعلي في منظومة التحالفات الحضارية. فكيف يمكن للعالم الإسلامي أن يتحول من موقع التلقي إلى موقع الفاعلية في بناء نموذج جديد للعيش المشترك؟
1. تجاوز الازدواجية بين العزلة والتبعية:
يعاني العالم الإسلامي من إشكالية في علاقته بالحضارات الأخرى، حيث يتأرجح بين العزلة الثقافية التي ترفض الانفتاح، والتبعية الفكرية التي تذوب في الآخر دون رؤية نقدية. المطلوب هو بناء علاقة تفاعل متوازنة، يتم فيها الحفاظ على الهوية مع الانفتاح على العالم.
2. استثمار القوة الناعمة لتعزيز التفاعل الحضاري:
يمتلك العالم الإسلامي العديد من الأدوات التي يمكن أن تجعله طرفًا فاعلًا في التحالفات الحضارية، مثل اللغة العربية، والفنون الإسلامية، والفكر الفلسفي والعلمي. المطلوب هو تفعيل هذه الأدوات ضمن استراتيجيات واضحة تعزز التواصل مع الثقافات الأخرى.
3. بناء مؤسسات ثقافية دولية مستقلة:
لا يمكن تحقيق شراكة حضارية متوازنة دون وجود مؤسسات ثقافية قوية تدعم التبادل الفكري والفني. يجب أن يكون هناك دعم للمراكز البحثية، والمعارض الفنية، والمنصات الإعلامية التي تعزز التفاعل بين الشعوب.
4. إعادة قراءة التراث الديني والفكري في ضوء التحديات الراهنة:
لا يمكن للعالم الإسلامي أن يساهم في التحالفات الحضارية دون إعادة قراءة تراثه الديني والفكري، بحيث يتم تقديمه في صورة مرنة تتفاعل مع الواقع، بدلًا من أن يكون مصدرًا للجمود والانغلاق.
* خلاصة القول: هل نحن مستعدون لمغادرة مواقع الدفاع إلى مواقع الفعل؟
التحالفات الحضارية ليست مجرد شعارات، بل هي مشاريع تتطلب إرادة سياسيّة وثقافيّة، ومؤسسات قادرة على تجسيدها. في عالم اليوم، لم يعد الانغلاق خيارًا، لكن في الوقت ذاته، لا ينبغي أن يكون الانفتاح مرادفًا للذوبان في الآخر.
المطلوب هو بناء نموذج جديد للعيش المشترك، حيث يكون لكل ثقافة دورها في الإثراء والتراكم المتبادل، بعيدًا عن منطق الصدام أو الاستلاب. فهل نحن مستعدون لمغادرة مواقع الدفاع المستمر عن الهوية، إلى مواقع الفعل والمبادرة في صياغة مستقبل مشترك للإنسانية؟