العلمانيون: متآمرون؟ أو متنورون؟ أو متحاملون على تاريخهم وحضارتهم؟
بقلم ذ/ محمد بادرة
دخلت العلمانية تاريخنا المعاصر من اوسع ابوابه حتى ان هذه اللفظة اصبحت من اوسع الالفاظ تداولا لا في المجال الثقافي وحده بل انها هيمنت على خطاب وشعارات التيارات السياسية وخطب المنابر الدينية ومضامين المجالات الاجتماعية والاقتصادية ولا جدال في ان انتقال هذه اللفظة الى حياتنا المعاصرة في عالمنا العربي قد تولدت عنه مشكلات واشكالات ثقافية وفكرية اضفت على هذه الكلمة ظلالا من المعاني الايديولوجية وشحنات من الاستفزاز والتحدي مما افرز مواقف مختلفة ومتباينة يجمعها قاسم مشترك هو رفض العلمانية كخطاب ايديولوجي ومجابهتها او الازورار عنها ..لأنها تضع نفسها في معارضة الدين او بالأحرى فصل الدين عن الدولة كما ينظر اليها انها مظهر من مظاهر التبعية للغرب وتعبيرا عن هيمنة “النخبة” المتغربة.
في عالمنا العربي عرفت العلمانية مرحلتين اساسيتين:
الاولى: هي العلمانية التي ظهرت في زمن الصدمة الحضارية مع الغرب والثانية هي علمانية العصر الحالي وهي التي يمكن نعتها بعلمانية العولمة الحديثة.
العلمانية الاولى كانت في اواخر القرن التاسع عشر حين كان العلم الاوربي في اوج ازدهاره وكان من الطبيعي ان ينعكس هذا التوهج العلمي الخارق ليتير انبهار مفكرينا وكتابنا وسياسيينا والذين يؤكدون ان الخلاص من التخلف والجهل والاستبداد لا يمكن ان يتحقق الا بأخذ النموذج العلماني الاوربي بكل عناصره وكان من ابرز المثقفين المتحمسين لهذه العلمانية الغربية ولفكر الانوار على سبيل المثال لا الحصر فرح انطوان وشبلي الشميل وسلامة موسى ولطفي السيد وعلي عبد الرازق وطه حسين وغيرهم وكان قد ساهم هؤلاء وبدرجات متفاوتة في ابراز وانجاز تأويل ايجابي للعلمانية ولفكر الانوار وكانوا يدعون الى تحقيق هدف حضاري محدد المعالم وهو بناء مجتمع حضاري معاصر جديد على شاكلة النموذج الاوربي.
بهذا المعنى وبهذا التأويل “الايجابي ” للعلمانية يمكن ان يعد (محمد علي باشا) اول علماني في التاريخ العربي الحديث لأنه صاحب اول مشروع متكامل للنهضة قوامه التحديث الشامل على النمط الاوربي وقد اسس جيشا ضخما حديث العدة والاعداد وبنى اسطولا حربيا قويا حقق به الانتصارات ضد الغرب العلماني وقرب الهوة بين العرب والشعوب المتقدمة وعقلن الزراعة والاقتصاد واصلح الادارة واقام السدود والجسور وانشا المدارس الحديثة والمستشفيات لكن المثير في هذه التجربة النهضوية وفي كل كتابات رواد النهضة انها كانت علمانية موجهة اساسا ضد علمانية اوربا الجائحة الجائعة للغزو وقد تبدو هذه مفارقة ولكن من المعروف ان الهدف المعلن لأغلب رواد هذا التيار العلماني المشرقي العربي هو الاقتداء بأوروبا من اجل التحرر من اوروبا نفسها لان التقدم العلمي والتكنولوجي الغربي لا يقهر الا بتقدم مماثل كما حصل في الماضي.
اما العلمانية المتأخرة(علمانية اليوم) فجاءت في سياق تاريخي مخالف لما سبق حيث فيه هزائم وانتكاسات على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي كما انه لم تعد مشكلة التحرر من الاستعمار هي المسيطرة بل اصبحت قضية التنمية هي الشغل الشاغل للشعوب وللأمم العربية وغيرها فتصارعت في مجتمعاتنا اتجاهات ليبيرالية ويسارية وقومية لكن التيار الذي اكتسح الساحة المجتمعية والسياسية والثقافية واجتذب الجماهير واثار خيالها وداعبها بأعرض الآمال كان التيار الاسلامي الذي اكتسح بقية التيارات واختطف منها قاعدتها الجماهيرية وسرعان ما انتقلت هذه الحركات الاسلامية الى الميادين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية فأنشأت البنوك والمصارف الاسلامية وشركات توظيف الاموال واستحوذت على سوق النشر والكتاب كما اكتسحت الازياء والالبسة “الاسلامية” الشوارع والمؤسسات بل وحتى الملاعب الرياضية فاتسع دور هذه الحركات وشملت كافة جوانب الحياة وجميع مؤسسات المجتمع وكان من الطبيعي ان يكون لهذا تأثيره الحاسم على مفهوم العلمانية في تاريخنا وعصرنا الحالي (د. فؤاد زكريا)
هذا الصراع بين الحركات الدينية والتيارات السياسية الحديثة وهذا الغموض الذي اكتنف علمانية العولمة الحديثة بعد ان احتوت في داخلها شتى انواع المواقف السياسية والايديولوجيات فنجد بين المؤيدين لها علماني يميني وعلماني يساري وعلماني ليبيرالي وعلماني قومي وعلماني متدين وعلماني غير متدين وكل مواقف هؤلاء جاءت فقط كرد فعل ضد التيار المعارض للعلمانية من قبيل الحركات الاسلامية حتى اصبحت علمانيتنا اليوم علمانية دفاعية قبل كل شيء بمعنى انها تستهدف مقاومة هذا التيار الديني الجارف ولا تستهدف بناء مشروعها الخاص كما كان حال العلمانية في اوائل ظهورها.. انها تبدو لنا علمانية سلبية تعرف جيدا ما لا تريد ولكنها لا تتوحد حول هدف ايجابي يحدد لها ما تريد(فؤاد زكريا).
علمانية اليوم تضم القومي واليساري والليبرالي والمثقف المسيس (العضوي) وغير المسيس وبقدر ما يختلف هؤلاء في تعريف مفهوم التقدم او الاصلاح او النهضة وفي تحديد نوع المسار الذي يسعون الى توجيه المجتمع نحوه الا انهم جميعا يتفقون على رفض الاهداف العامة التي يدعو اليها التيار الاسلامي ويتحدون في الاقتناع بان نوع التغيير الذي ينادي به هذا التيار لن يحل من مشكلات المجتمع الحقيقية شيئا فضلا عما سيؤدي اليه من غلبة اسلوب العنف على اسلوب الحوار الديموقراطي ومن خلال عدد من ردود افعال هؤلاء العلمانيون يبدو انها لا تبحث الا عن نسف المشرع الثقافي والسياسي لخصومهم الاسلاميين وليس تقديم علمانية ملائمة كضرورة اجتماعية وسياسية لمجتمعاتنا الاسلامية في مرحلتها التاريخية الراهنة. فماذا يعني الدفاع عن “المثلية” وحماية الشواذ جنسيا؟ وماذا يعني استعداء المرأة على الرجل؟ وماذا يعني ضرب القيم واستهداف الاخلاق؟ وماذا يعني اتخاذ موقف عدائي من كل ما شرعي وديني؟ يتعاملون بسطحية مع الدين او يستخفون بتأثيره على الجماهير.. ماذا سيستفيد المجتمع في حالة انحلال خلقي شامل؟ حتى كارل ماركس في كتابه (العائلة المقدسة) هاجم بشدة الهيجليين الشباب الذين وضعوا الدين في موضع العدو مؤكدا ان هذا الموقف هو محاولة لإخفاء العدو الحقيقي .. وهو العدو الطبقي.. لماذا العلمانية تنتقص من قدر وقيمة الدين؟ وهل العلمانية وحدها هي من تدعو للرفع من قيمة العقل والتزام المنطق العلمي والمنهج العقلي واستقلالية التفكير؟
أ- ان علمانية اليوم لا تكون لنا مشروعا ثقافيا وحضاريا متكاملا ينافس المشروعات الاخرى بقدر ما تبحث عن الجيوب المظلمة في تاريخنا الهامشي من عصور الانحدار الفكري كي تنسف المشروع الحضاري للامة وتجابه ايديولوجيا وسياسيا وليس فكريا الخصوم من التيارات التي تعارض مشاريعها وخططها وتامرها على التراث الحضاري للامة.
ب- ان علمانية اليوم لا تمثل مذهبا تقول به مجموعة متجانسة او متقاربة الاتجاه وانما تضم في داخلها جماعات شديدة التباين في توجهها الايديولوجي والسياسي وبالتالي يحدث سوء الفهم حول مفهوم العلمانية وهي تعرض علينا “مذهبها” العلماني بطريقة فضفاضة او مضللة وكأنها ليست الا سلاحا لمجابهة الاسلاميين والمحافظين او منهجا “علميا” لرفض سلطة القدماء على عقول المحدثين وتشترك هذه التيارات المتعددة في اقتناعها بان الصيغة التي يقترحها التيار الاسلامي ليست هي الحل مما يترتب عليه ان العلمانية عندنا هي علمانية دفاعية في المقام الاول !!!
ج- العلمانية المعاصرة بجماعاتها المتباينة تشترك كلها في رفض المشروع الذي تقدمه الحركات الاسلامية المعاصرة اي انها تشترك في السمات السلبية بقدر ما تختلف في التوجهات الإيجابية ويترتب على ذلك ان العلمانية المعاصرة لا تقدم جديدا ولا بديلا للواقع الكائن وانما تحاول المحافظة عليه ضدا على مشروع الحركات الاسلامية مما يترتب عليه انها علمانية دفاعية لا بناءة ولا هجومية.
هكذا نلمس ان الفرق بين التيارات الاسلامية والاتجاهات العلمانية في مجتمعاتنا ليس فرقا او تضادا بين مشروعين حضاريين او سياسيين وانما هناك تفاوت وصراع بين اطروحات ونظريات متشربة من التراث الحضاري او مواقف الجماعات الدينية بمختلف تلويناتها من جهة وبين مبارزات وتلاسنات خطابية واليات دفاعية لنقد وانتقاد هذه الاطروحات والمشاريع وبيان نقط الضعف فيها من جهة اخرى وهذا ليس تضادا بين ايديولوجيتين وفلسفتين ومنهجين لان هناك من جهة أيديولوجية التيارات الاسلامية (وان اختلفت في بعض التفاصيل) وهناك من جهة اخرى مجموعة من الايديولوجيات الشديدة التباين التي لا يجمع بينها سوى رفض الحل السياسي والثقافي والاجتماعي الذي تقترحه التيارات الاسلامية !!!!
ان العلمانية عندنا اريد لها ان تكون علمانية مجتهدة في ردود الافعال اكثر مما هي مجتهدة في بناء “المشاريع الفاعلة ” فهي تجتهد في ردود الافعال ضد كل موقف او راي او مشروع “اسلامي” مدونة الأسرة اذا ما اسست على اجتهاد فقهي او على احكام نصية قطعية تهاجم فقط لأنها استندت على قواعد شرعية- دينية؟؟ ومن او ما يخالفها مرحب به ولو كان من عصور عبادة الطوطم وتقديس الاجرام والاحجار !!! ممارسة الجنس بتحرر تام مع القاصر “افضل” من تزويج الفتاة بعقد شرعي !!! …. ان ما تستهدفه العلمانية المعاصرة في مجتمعاتنا ليس الا ردود افعال ضد كل ما هو ديني وازاحة القداسة عن الدين وتضييق نطاقه حتى يتم اسكات صوت معارضيها من “الاسلاميين”؟؟
وقد حصل الاجماع عند كل التيارات الدينية ان العلمانية والعلمانيين يربطون العلمانية باللادينية وهذا في الواقع اقوى اسلحتهم واشدها تأثيرا في نفوس الاتباع وعندما يحدد الموقف العلماني بانه مضاد للموقف الديني وانه يجب اسقاط كل ما يتصل بالفكر والتراث والدين والقيم .. تكون القضية حينئذ قد حسمت قبل ان يبدا اي نقاش !!
ان العلمانية المعاصرة اليوم في مجتمعاتنا تبدو على عكس علمانية الامس وعكس راي ومواقف رواد النهضة من الجيل الاول الذين تبنى الكثير منهم فكر الانوار حين اجتهدوا وانتقدوا الاوضاع القائمة وازالوا الكثير من المغالطات التي يروجها هذا الطرف او ذاك من العلمانيين او المحافظين وان استحضار واستذكار اسماء بعض كبار كتابنا من رواد النهضة علمانيين كانوا او حداثيين من امثال طه حسين – عبد القادر المازني – عباس محمود العقاد… ممن كانوا باحثين اصلاء في التراث ومدافعين اشداء عن اصالة الذات العربية.
ان من مغالطة العلمانيين ومعهم في نفس الخط حتى المحافظين بتلويناتهم المختلفة انهم وضعوا المنهج العلمي في تضاد وصراع وخصومة مع التراث والدين والقيم القديمة وكأن الحرص على التراث والدين يلزمنا ان ندير الظهر للمنهج العلمي والعقلاني وللاجتهاد وهي مغالطة لا يرد عليها العلمانيون وحدهم بل يرد عليها الاسلاميون انفسهم حيث يجب التأكيد ان تراثنا الديني والحضاري حافل بنماذج العلماء والفقهاء والفلاسفة والفرق الدينية الذين انتهجوا اسلوب المنهج العقلي والعلمي (الغزالي – ابن رشد- ابن سينا-المعتزلة- الفارابي- ابن الهيثم..)
العلمانية في سياقها الاوربي هي ثورة فكرية على التراث والتقاليد باسم العقل الذي اخضع كل شيء للفحص والنقد بما في ذلك السلطة السياسية التي تحكم باسم المقدسات وهي ثورة فكرية حققت قطيعة أبستمولوجية مع الماضي الاوربي ومع كنيستهم اما العلمانيون عندنا (وليس العلمانية) فهم حالة انفعالية ساخطة على القيم والتقاليد- هكذا ليس الا- حيث سعوا الى الغاء كل ما هو روحي او راق او رفيع في الانسان وعقيدته وكأن هؤلاء العلمانيون لم تكن لهم في حياتهم من رسالة سوى تأكيد غريزة الانسان وبهيميته وانهم لم يقدموا لنا مشروعا عقلانيا او قيما عقلية في نقدهم للتراث او للمؤسسة الدينية والسلطة السياسية كما حصل في التاريخ الاوربي الحديث… انهم اختاروا المعركة مع الاسلاميين في لباسهم وزواجهم وطقوسهم عوض ان يختاروا المعركة مع الجمود والتخلف والتبعية والانسلاخ من الهوية والاغتراب…انهم اختاروا الانفصال عن التاريخ وعن القيم وعن الهوية وعن الذات التي يسعون الى علمنتها على اساس ان تسقط نهائيا والى الابد كل ما يتصل بفكرها وتراثها ودينها وقيمها القديمة وهو ما لا يمكن ان يحصل او يتحقق في نظر صاحب مشروع نقد العقل العربي محمد عابد الجابري لأنه (لا نستطيع النهوض ولا التقدم باستعارة النماذج واللغات والازمنة التي تأسست خارج ذواتنا، وبالمقابل فإننا نستطيع تطوير ذاتنا بالانخراط في تاريخها الذاتي واحداث شقوق داخلية فيه بالصورة التي تمكننا من تجاوزه بفعل مفعول الشقوق..) الانفصال عن الذات وعن الهوية لا يمكن ان يحصل ..واستنساخ التجارب لا يمكن ان تنجح ..والانفصال عن التراث لا يمكن ان يتحقق الا بالاتصال به لان في نظر الجابري يستحيل الفصل دون وصل، فهل نجح العلمانيون في بناء مشروع عقلاني حداثي بالنقد من الداخل دون الهروب الى الامام؟ ام انهم متآمرون على تاريخهم وحضارتهم؟ وهل العلمانية مؤامرة غربية ام ضرورة حضارية؟