فرنسا على حافة اختبار سياسي حاسم: أزمة الشرعية أم فرصة لإعادة التشكيل؟
عبد الله مشنون كاتب صحفي مقيم في ايطاليا
في لحظة سياسية استثنائية، تواجه فرنسا واحدة من أصعب محطات حكمها في عهد الجمهورية الخامسة، إذ تجد الحكومة الفرنسية نفسها اليوم أمام تصويت حاسم على الثقة في البرلمان — تصويت لا يحدد فقط مستقبل رئيس الوزراء فرانسوا بايرو، بل قد يرسم ملامح الحياة السياسية في البلاد للسنوات القادمة.
تعود جذور هذه المواجهة إلى نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي أفرزت برلمانًا مفككًا، بلا أغلبية واضحة، ولا تحالف حاكم مستقر. وفي هذا السياق، ظهر التعيين الأخير لفرانسوا بايرو كرئيس وزراء وكأنه محاولة مؤقتة لترقيع الأزمة، وليس معالجتها من الجذور.
الحكومة التي شُكّلت وُصفت منذ البداية بأنها ضعيفة التمثيل البرلماني، بل ومرتبطة أكثر بالرئاسة منها بالمؤسسة التشريعية، ما فتح الباب واسعًا أمام اتهامات بانعدام الشرعية الديمقراطية.
ولهذا، لم يكن قرار بايرو بطلب الثقة خطوة رمزية أو جسارة غير محسوبة. بل كان محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين الحكومة والبرلمان، والرد على خصومه الذين يتهمونه بأنه مجرد امتداد تقني للإليزيه.
فرانسوا بايرو، الرجل الذي خبر السياسة الفرنسية منذ عقود، يعرف أن إدارة حكومة في ظل هذا التشرذم البرلماني أقرب إلى السير على حبل مشدود. لكن رغم معرفته الدقيقة بموازين القوى، فضّل الدخول في المواجهة بدلاً من البقاء رهينة التهم والتشكيك.
الثقة، إذن، ليست فقط اختبارًا للحكومة، بل اختبارًا للنظام السياسي برمّته: هل لا يزال بمقدور المؤسسات الفرنسية أن تفرز توازنًا قابلًا للحكم؟
أم أن الأزمة باتت بنيوية، تستدعي مراجعة أعمق؟
ثلاث نهايات محتملة… وكلها مُكلفة
1- الثقة تُمنح بصعوبة
إذا نجحت الحكومة في انتزاع الثقة، فسيُنظر إلى ذلك كإنقاذ مؤقت لماكرون وحكومته. لكنه سيكون إنقاذًا هشًّا، في ظل استمرار الانقسام، وتآكل الثقة الشعبية، وتحديات اقتصادية واجتماعية خانقة.
ببساطة: سيكون هذا “نجاحًا مؤجلاً”، وليس حلاً حقيقيًا.
2- الحكومة تسقط، والفوضى تبدأ
في حال سحب البرلمان الثقة من حكومة بايرو، سيدخل المشهد الفرنسي حالة من السيولة السياسية الصعبة. إذ سيضطر ماكرون إلى تكليف شخصية جديدة، ومحاولة بناء توافق مستحيل تقريبًا داخل برلمان مفكك.
سيكون ذلك ضربة قوية لمكانة ماكرون داخليًا ودوليًا، وقد ينعكس سلبًا على ملفات حيوية مثل الميزانية، والهجرة، والضمان الاجتماعي.
3- السيناريو النووي: حل البرلمان
أخطر ما يمكن أن يحدث، هو لجوء الرئيس إلى حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة. خطوة قد تُفسر على أنها مغامرة شعبوية، وقد تفتح الباب أمام صعود غير مسبوق لليمين المتطرف أو اليسار الراديكالي.
لكنها، في المقابل، قد تكون آخر فرصة لماكرون لإعادة رسم الخريطة السياسية، خاصة إذا أحسن استثمار تشتت المعارضة.
من الواضح أن قرار التقدم بطلب الثقة لم يكن قرار بايرو وحده. بل هو تحرك مشترك مع الرئيس ماكرون، في محاولة لاستعادة زمام المبادرة. لكن هذه المبادرة محفوفة بالمخاطر، لأن الفشل فيها يعني نهاية سياسية محققة لكليهما، أو على الأقل بداية أفول مشروع ماكروني لم يستطع أن يتحول إلى تيار مستقر ومتماسك.
بصرف النظر عن نتيجة التصويت، فإن ما يحدث اليوم في باريس يُعد لحظة اختبار للمؤسسات، وللنظام شبه الرئاسي الذي طالما تفاخر بمرونته.
لكن هذه المرونة، إن لم تواكبها شرعية برلمانية حقيقية، واستقرار حزبي واضح، فإنها تتحوّل سريعًا إلى هشاشة سياسية قابلة للانفجار في أي لحظة.
فرنسا أمام مفترق طرق، لا يتعلق فقط بمصير حكومة أو رئيس، بل بهوية النموذج الديمقراطي الذي تعيشه منذ عقود.
الرهان الآن ليس على الأفراد، بل على قدرة النظام السياسي على تجديد نفسه من الداخل — دون أن يتحول إلى ساحة صراعات صفرية تُفقد المواطن الثقة في كل شيء.
فهل يكون تصويت اليوم نهاية أزمة… أم بداية لأزمة أعمق؟
منار اليوم – جريدة شاملة مستقلة





















