أخر الأخبار
الرئيسية » اخبار » اشكالية ضعف الانتماء المؤسسي وتأثيره على الإنتاجية: القيادة الميدانية كاستثمار استراتيجي

اشكالية ضعف الانتماء المؤسسي وتأثيره على الإنتاجية: القيادة الميدانية كاستثمار استراتيجي

رشيد وزكان وكيل قروض بمؤسسة مالية 

في عالم المؤسسات الحديثة، تتحدد فعالية أي منظمة بشكل كبير بجودة قياداتها. ومع ذلك، تظهر فجوة واضحة في الأداء بين نوعين من القادة: أولئك الذين صعدوا من الميدان وعايشوا تفاصيل العمل اليومي، وأولئك الذين تولوا القيادة دون أن يكون لديهم أي تجربة ميدانية. هذه الفجوة ليست مجرد اختلاف في الأسلوب، بل هي جوهرية تؤثر على استدامة المؤسسة وقدرتها على تحقيق أهدافها. وبينما تسعى المنظمات إلى تحسين الأداء، غالبًا ما تتجاهل الأسباب الحقيقية خلف ضعف الإنتاجية، وفي مقدمتها افتقار القيادة إلى فهم حقيقي للميدان.

القادة الذين صعدوا من الميدان يُمثلون قيمة مضافة لأي منظمة. فهم يدركون تعقيدات العمل، ويعون تمامًا الضغوط التي يواجهها الموظفون. هذه الخبرة تجعلهم قادرين على اتخاذ قرارات واقعية تأخذ بعين الاعتبار الإمكانيات المتاحة والتحديات الفعلية. على الجانب الآخر، نجد أن القادة الذين لم يجربوا الميدان يميلون إلى إصدار قرارات مثالية، تبدو جيدة على الورق لكنها غير قابلة للتنفيذ. هذه الفجوة بين الرؤية النظرية والتطبيق العملي تؤدي إلى سلسلة من الإخفاقات التي تُضعف الثقة بين الإدارة والعاملين.

الأخطاء التي يقع فيها القادة النظريون تعود بشكل أساسي إلى عدم قدرتهم على استيعاب ديناميات العمل الميداني. على سبيل المثال، قد يطلبون زيادة الإنتاجية دون أن يُدركوا أن البنية التحتية غير كافية لتحقيق هذا الهدف. أو ربما يُصدرون قرارات تقشفية تفرض ضغطًا إضافيًا على الموظفين دون تقديم أي حلول لدعمهم. هذه السياسات غير الواقعية تُفاقم من مشكلات المؤسسة، وتُزيد من معدلات الاستقالات وتراجع الأداء.

من المثير للسخرية أن المنظمات، عند ملاحظة تراجع الإنتاجية، تُسرع إلى عقد ورشات عمل وندوات لتشخيص الأسباب واقتراح الحلول. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن هؤلاء القادة النظريين هم أول من يُدعى للمشاركة وأول من يتحدث عن الحلول. يُديرون النقاشات باستخدام لغة نظرية بعيدة عن الواقع، مما يُعزز الحلقة المفرغة التي تجعل المنظمات عالقة في نفس المشكلات دون تقدم يُذكر.

على النقيض، القادة الميدانيون يمتلكون القدرة على التعامل مع هذه المشكلات من جذورها. فهم يفهمون طبيعة العمل ومتطلباته، ويمكنهم تصميم سياسات واقعية تُحسن من ظروف العمل وتُحفز الموظفين. على سبيل المثال، القائد الذي عمل ميدانيًا يُدرك أن الإنتاجية لا تُقاس فقط بالأرقام، بل ترتبط أيضًا برضا الموظفين وراحتهم النفسية. وبالتالي، تكون قراراته مبنية على التوازن بين متطلبات الأداء واحتياجات العاملين.

إعادة توظيف القادة الميدانيين المقبيلين على التقاعد في أقسام حيوية مثل الموارد البشرية يُمكن أن تُحدث نقلة نوعية في أداء المؤسسة. هؤلاء القادة يُمكنهم بناء جسور تواصل فعالة بين الإدارة والعاملين، مما يُعزز من الانتماء الوظيفي ويُخفض معدلات الغياب والاستقالات. كما أنهم يمتلكون رؤية شاملة تُساعد في تحديد الأولويات وتوجيه الموارد نحو المجالات الأكثر أهمية.

أحد أكبر الفوائد التي يمكن تحقيقها من إدماج القادة الميدانيين هي قدرتهم على تحفيز الموظفين من خلال القدوة. فهم يمثلون نموذجًا حيًا للنجاح الذي يمكن تحقيقه من خلال الالتزام والعمل الجاد. هذه القدرة على الإلهام تُحفز العاملين على تطوير أدائهم وتعزيز ولائهم للمؤسسة.

من الناحية الاقتصادية، القادة الميدانيون يُعتبرون استثمارًا مربحًا. بدلاً من استنزاف الموارد على برامج تدريبية غير فعالة أو استشارات خارجية، يمكن لهؤلاء القادة تقديم حلول عملية وقابلة للتطبيق تُوفر التكاليف وتُزيد من الإنتاجية. كما أن وجودهم يُقلل من التكاليف المرتبطة بإعادة التوظيف، لأنهم يعملون على تحسين بيئة العمل بما يُحافظ على الكفاءات داخل المؤسسة.

في المقابل، استمرار الاعتماد على القادة النظريين يُشكل خطرًا كبيرًا على استدامة المؤسسة. هؤلاء القادة غالبًا ما يفتقرون إلى المرونة في مواجهة الأزمات، حيث تعتمد قراراتهم على أرقام وتحليلات جامدة دون فهم سياقها الميداني. هذه القرارات تُضعف أداء الفرق، وتُزيد من الفجوة بين الإدارة والعاملين، مما يُؤدي إلى ضعف الانتماء المؤسسي وانخفاض الإنتاجية على المدى الطويل.

على مستوى الثقافة المؤسسية، يُسهم القادة الميدانيون في خلق بيئة عمل داعمة تُعزز من الشعور بالانتماء لدى الموظفين. فهم يُدركون أهمية التواصل المباشر والشفاف، ويعملون على تعزيز الثقة بين الإدارة والعاملين. هذا النهج يُسهم في بناء فريق عمل قوي ومتحد قادر على مواجهة التحديات وتحقيق أهداف المؤسسة.

ختامًا، تُعد الفجوة بين القادة الميدانيين والنظريين أحد أكبر التحديات التي تواجه المنظمات في العصر الحديث. تجاهل هذا الفارق يُعرّض المؤسسات لخسائر كبيرة على مستوى الأداء والموارد. بينما يُمثل الاستثمار في القادة الذين صعدوا من الميدان استراتيجية مستدامة تُعزز من الانتماء المؤسسي والإنتاجية. المؤسسات التي تُدرك هذه الحقيقة وتُعيد النظر في سياساتها القيادية ستكون الأكثر قدرة على تحقيق النجاح في بيئة العمل التنافسية.