“حين يزهر اللوز” .. للكاتب محمد ابو العلا
موقع منار اليوم الجمعة 25 يونيو 2021.
“حين يزهر اللوز” لمحمد أبو العلا
أو الإقامة بين قيامتين
ـ د.الحبيب الدائم ربي(المغرب)
” لونجح المؤلف في كتابة مقطع
في وصف زهر اللوز
لانحسر الضباب عن التلال” محمود درويش
ـ متن وحاشية:
اختار الكاتب محمد أبو العلا جبال الأطلس المتوسط مسرحًا لعوالمه التخييلية التي شيدها في روايته” حينما يزهر اللوز”. وهي، كما نعلم، ، فضاءات لها رمزيتها التاريخية والجغرافية ، لكنها منذورة للتهميش والهشاشة. فكما تقسو عليها الطبيعة، سيما في فصل الشتاء، فإنها تعاني من ضيق المسالك و ضيق الحال و “أصحاب الحال”، حالا بحال. مما يجعل منها، واقعيا وتخييليا، أقرب إلى ماكاندو التي تحدث عنها ماركيز في “مائة من العزلة”. لا من حيث العزلة التي تلفهما معا وحسب، وإنما أيضا لكون ما يقع فيهما معا قد يفوق كل خيال. ولأن تشخيص “غرائبية الأعالي” يتجاوز حدود إدراك الساكنة البسيطة، المنشغلة بأوضاعها الحياتية الصعبة، فقد رشّح الكاتب لهذه المهمة ساردا مشاركا، ما لم نقل ساردا عضويا(بالمعنى الغرامشي)، لا يكتفي بتسجيل الوقائع والأحداث، كسائح إثنوغرافي، وإنما كفاعل أساسي يُقاسم الأهالي معانياتهم اليومية ويدفع بالوقائع إلى منتهاها. إنه إدريس. هذا المستخدم البريدي البسيط الذي طوحت به الإدارة، ربما نكاية في هذه الصفة، كما طوّحت وزارة الاتصال بزميله العربي الستيام، في هذه الجبال الموحشة.
كان قدَرُ إدريس أن يتم “نفيه”ـ إدارياـ في “ديستوبيا” الأعالي حيث “لا بريد في الأفق”، أو أنه لا يصل إلا بعد فوات الأوان، كما قد لا تصل أمور كثيرة من شأنها ربط الناس بما يجري في المدن والبلدان، هذا عدا ما يحتاجونه من ضروريات. فبعد أن استنزف المستعمر الفرنسي ثروات المنطقة، ما ظهرَ منها وما بَطَن، وتم إغلاق “المنجم” ، رحل تاركا خلفه القيامة أو ما يشبه الخراب، حتى لا نقول القيامة . وليته ما رحل، مادام قد فسح المجال لبعض المتنفذين وأعوان السلطة الذين، بمقتضى هذا الفراغ، تحصلوا على امتيازات فباتوا يشدون عليها بالنواجذ، في شطط، بدل الاستجابة لمطالب السكان على بساطتها. لكن اشتداد الظلم سيولد لدى الأهالي المسالمين نزو عا إلى التمرد “حين يزهر اللوز”. وكان . حيث سيظهرون شجاعة نادرة. وفي هذا السياق الملحمي سيبرز “الجبلي” وزوجته “العالية” كبطلين تراجيديين، لهما أخلاق النبلاء. فالجبلي ( الذي انتشل العالية من الضياع، بشهامة الفرسان، وتزوجها. ورغم أنه “لم ينجب منها من زينة الحياة ما يعينه على شظف العيش، ومع ذلك يحتفظ لها دائما بالود والتقدير”(ص.30))، سيكون أول من يُعلن العصيان. وفي صفه ستقف العالية بصلابة ما انفك يشيد بها مازحاً:” العالية راجلْ ما ادّير في كتافك. خاصها غير الموسطاش”(ص.30). وستتجلى شهامتها أكثر بعدما “رقّاها، نكاية في الجنرال ليوطي، رتبة مارشال، لمّا وهَن جسده ذات ليلة”(ص.30). إلا أن اختلال موازين القوى، وتفشي الخيانة، سيكلفان الجبلي والعالية غاليا، ليسود ” صمت مشوب بآهات وأنين هنا وهناك، بعد مجزرة أُكرم فيها كل من سولت له نفسه العصيان، أو وسوس له شيطانه بإشهار التمرد” (ص.82). مما سيؤجل الثورة إلى أوان ازهرار اللوز. ولو أن فصل الربيع قد تأخر طويلا. لكنه سوف لن يخلف الموعد، مادام اللوز أول ما يزهر من الأشجار.
هي إذن رواية تستحضر شذرات قيامية من ” تاريخ مغبون خذله مكر الجغرافيا، وتواطؤ أعيان مع جهات نافذة لكسر شوكة وارثي التمرد بالقهر و الإخضاع، تاريخ سري دونته الألسن وسارت بملاحمه الركبان، من القصيبة إلى حاضرة زيان، إلى تازكزاوت مرورا بإشقيرن وآيت سخمان”(ص.33). وهو تاريخ من لا تاريخ لهم من أبناء “المغرب غير النافع” . ولكي تكتسي الأحداث المتخيلة قدرا من المماهاة مع الواقع فقد طعمها الكاتب بإحالات تاريخية مستمدة من مذكرات أوغسطين ليون كيوم، وتقرير كاترو أحد أذرع المارشال ليوطي(ص. 32) وكتاب “كباء العنبر”لأحمد المنصوري ومرويات شفوية، بعضها ورد على ألسنة أبطال الرواية، فضلا عن مراجع أخرى أثبتها الكاتب في آخر الرواية. إلا أنها(أي الرواية)، وهي تتوقف عند الاختيارات الخاطئة التي تم انتهاجها إزاء سكان الأرياف الجبلية بالمغرب، وخاصة منطقة الأطلس المتوسط، من جهة، و محاولات التمرد التي قام بها هؤلاء، من جهة أخرى، لم تنسَ التفاصيل اليومية للمعذبين في الأرض في حالات الفرح(وما أندرها) والقرح، والمكابدات التي يواجهونها كل يوم من أجل البقاء، دون أن يفوتها الاحتفاء بجمالية هذا المكان، بماهو “توبوس” يجمع بين القسوة والفتون، فإلى جانب وحشة التضاريس وتقلب الفصول هناك جمال بدئي لا يُقاوَم. لكنه جمال مشوب بخدوش مريعة تسبّب فيها المسؤولون عن الشأن العام .. ففي هذه الأصقاع يلتقي الضد بضده. فالفرح ” بلا تخوم وإن بدا مدخولا بالشجن”. ففي الشتاء يغور الناس ” عميقا كنمل أو يسرحون بعيدا على أديم الأرض كنحل، مدخرين للصيف فرحا عابرا بقدر ما يتوهج يخبو، فشتاؤهم بيات سرمدي وصيفهم عرس وبيدر”(ص.151). غير أن الإهانة التي يتلقاها سكان الجبال من الطبيعة والإنسان لم تنل من شموخهم وكبريائهم. فرغم الفاقة والظلم فإنهم لا ينكسرون. وفي خضم الوحشة سيحافظون على بوارق أمل في المستقبل. علما بأن مطالبهم العادلة، كما قلنا، متواضعة جدا.
ـ شخوص وأدوار:
لئن كان الركح الذي تدور فوقه تراجيديا “ما بعد القيامة” ، مؤثثا بما يكفي من ديكور تغلب عليه القتامة حتى في أوقات تكلل القمم بالبياض، فإن البرنامج السردي لهذه التراجيديا تحركه فواعل وقوى متعارضة، إذ تشمل الأولى الطبقات السفلى التي تسكن الأعالي، في مقابل قوى السلطة. وضدا على اختلال موازين القوى، كما أسلفنا، فإن سكان الجبل كانوا يجدون في تاريخهم وعصبيتهم معادلا موضوعيا من شأنه أن يقوي شوكتهم(معارك الهري، القصيبة، اشقيرن، تازكزاوت)، ولهم من الأسماء والكنى ما يمنحهم عزة ورفعة نكاية في دناءة المكانة الاجتماعية والوضع الاقتصادي(الجبلي” اجبيلو”، العالية…) هذا عدا المؤازرة الميدانية التي تكفل بها إدريس( والتسمية هنا ليست اعتباطية، مادامت توحي بكثرة المدارسة كما ذكر عبد الله العروي في “أوراقه”) لإذكاء الوعي وزيادة منسوبه في أوساطهم، مما سيجعل الجميع ينخرط في العصيان السلمي بمن فيهم فقيه الكتاب. لهذا لم تنجح السلطة(لمقدم، الخليفة، القائد، الدرك، الكولونيل ، العقيد…) ولا زبانيتها(علال المينورو…) في ردعهم. صحيح أن “ربيع السلطة” عَمّرَ طويلا إلا أن “المجد كان للهامش” كما ورد في آخر الرواية.
ـ حين تزهر الرواية:
ليست رواية”حين يزهر اللوز” مجرد متن حكائي ، وإنما هي اشتغال إبداعي يمنح الألق لمتخيل الريف، عبر كتابة الرواية بأدوات “غير روائية”، يأتي “أبو الفنون” في مقدمتها، إلى جانب فنون وجوامع نصية مختلفة. ذلك أن الفصول أتت على شكل لوحات مسرحية تتوفر فيها كثير من سبل التشخيص والحركة المدوزنة في الأحياز الركحية وما إليها من ديكور وأكسسوار. حتى أن “ثقافة المسرح” تجلت نصيا في سنخ الرواية في مواطن متعددة، تارة كإحالات صريحة أو كميتاخطاب تضعيفي تارة أخرى. وهيمنت الحقول المعجمية والدلالية، المستوحاة من المسرح على النص ككل، هيمنة كبيرة( الركح، برولوج، إيبلوج، تراجيديا، الكورس، المأساة، الكوميديا السوداء،مسرح الدمى، كريون، أنتجون، تراجيكوميديا، كومبارس، تريسياس، شكسبير، هاملت…)، بل إن شخصيات الرواية قامت بتشخيص مسرحي فعلي لنصوص قديمة، في فصل كامل من الرواية(مونولوج وحوار موحى الدرامي والسهلي، في الفصل المعنون “موحى الدرامي أو حارس الهباء”(ص.ص.59ـ 71)).
ـ الكورس الحزين:
لكي تكتسب الوقائع رسوخها كان لا بد لها من خلفية تليق بها. وقد اختار الكاتب محمد أبو العلا لأحداث روايته حقلا صوتيا، من الموسيقى والنصوص المصاحبة، يتماشى وطبيعة المكان وذويه. فتارة يتبدى هذا الحقل عالِما(فيفالدي) وتارة أخرى شعبيا(مرددات). وإلى جانب نصوص الشعر الفصيح، الموزون والمنثور، معلومة المصدر أو مجهولته (المتنبي (ص.160)، عبد الرحمن الداخل(ص.132)، محمود درويش(ص.130) تحضر عيوط جنائزية ومرويات شعبية للنيرية أو امباركة البيهشية(ً.ص.34ـ 35) وأغان بالأمازيغية أو مترجمة لفنان الأطلس محمد رويشة(ص.150) ، . ولأن “قافلة الموت ” في هذه الأصقاع لا تعرف التوقف فإن “أصوات المقرئين” و”عويل النساء” غالبا ما تعم الأرجاء، وخلفهما مواكب جنائزية ومُعَزون. بيْد أن هذا “العود الأبدي” الذي لا فكاك منه لا يمنع الناس من اقتناص لحظات مسروقة من الفرح. فمتى ما ذاب الثلج صار “لا صوت يعلو هذه الأيام على أصوات الكمانات المبحوحة والزغاريد، وأهازيج الأعالي هنا وهناك، ينتهي عرس ويبدأ آخر، عقيقات وختان ، وجذبات “ستاتي الجبل” ” (ص.149). هو الفرح إذن، لكنه فرح تخترقه موسيقى “مثل كورس يوناني حزين”(ص.150). لكأنه توقعٌ استباقي للأسوأ تؤكده تجارب سابقة، إذ دأبت فيها السلطة، في كل مرة، على إفساد هذا الفرح بمجزرة.
ـ الحب في أزمنة البياض:
وكما لا تنهض الملاحم من دون شهداء فإن رواية” حين يزهر اللوز”، وعلى غرار “الحب في أزمنة الكوليرا”، زرعت في “خراب القيامة” قصة حب حزينة، بل قصتين: قصة إدريس وريم، وقصة السهلي وياسمين. إلا أنه إذا كان قد كتب للعاشقيْن، في رواية ماركيز أن يتزوجا في النهاية، فإن أبطال محمد أبو العلا لم يلتقيا إلا بعد أن فات الأوان، وكان عزاؤهم في كون اللوز قد أزهر. فالسهلي مات أو انتحر، والسارد تم تسريحه من الخدمة، والمعشوقتان سافرتا إلى البعيد و”البقية في السرد”(ص.217). ولتلخيص هذه النهاية المأساوية، يقول السارد (البطلُ) مخاطبا ياسمين” أعرف ياسمين أن بيننا عقدا من عمر ضائع، جرّبت فيه أنا أن أجري وراء سراب ريم، وجربت فيه أنت اقتفاء ما تبقى من حطام السهلي، ومسافة عقدين من زمن ظالم، أتى على بلدة أينعت سريعا ثم ذوت. بلدة كل ما فيها أنبأني باستحالة ركوب قطار مر بسرعة الضوء، تاركا خلفه من يلوّح بتذاكر بئيسة ، هي ما تبقى من رسائل تذكّر بمن فاته الموعد، فآثر مثلي أن يكتب”(ص.215).
ـ رسائل لم تصل:
لقد كان إغلاق المنجم، بعد استنزاف مخزونه، كارثة حلّت بسكان الأعالي. لا لأن ذلك قطع أرزاقهم وحسب، وإنما لأنه ضاعف من عزلتهم. فبعدما كانت الرسائل تصل، بين الحين والحين، إلى مكتب البريد، لم يعد أحد يكاتب أحدا، خاصة وأن السبل بين الناس تفرقت شذر مذر. وحتى وإن وردت بعضها فلن يطلبها أحد. لأن المرسل إليهم غادروا المكان.”رسائل صفراء شاحبة، وأخرى بيضاء بطوابع أجنبية، تؤرخ جلها لتاريخ معلوم… بل من حصار لا أحد عدّ ضحاياه ممن قضوا، أو من ينتظر مخبولا أو منخورا بالسليكوز… رسائل توقف بها البريد في آخر محطة باردة مهجورة، فيض من شعور وطفح وجد بكل اللغات يترجم حنينا إلى حبيب أو حبيبة بياغتهما الفراق، بفعل قرار طائش بتوقيف المنجم، لتتوقف الحياة.(ص.22). ومن بين هذه الرسائل(الضائعة) المؤرخة في ربيع (مارس وأبريل) من سنة 1980، عرضَ السارد خمس رسائل: أربع باللغة العربية(فاطمة من وجدة، عزيزة من فاس، عائشة من بني ملال، حميد من بلاد المنجم) ورسالة واحدة باللغة الفرنسية للورين من مارسيليا).
ولأن العيش بين قيامتين منذور بالفاجعة، فقد كان قدر الرسائل الإهمال كمعادل موضوعي لما حاق بالعاشقين من خذلان.
ـ سرد عالِم لمتخيل شعبي:
لقد أكدت لنا رواية “حين يزهر اللوز” أن متخيل الريف ليس مجرد فرضية، وأن الرواية كما يمكنها أن تكون مرآة تجوب الشوارع(حسب ستاندال) بوسعها، كذلك، أن تكون مرآة تجوب الأرياف والهوامش.هكذا رأينا كيف شخّصت معانيات ساكنة الهامش، وكيف عرضت غنى الأرياف المغربية، طبيعة وتاريخا وناساَ. ولكي تقوم بهذه المهمة لجأت إلى خطاب تضفيري من مستويين: مستوى عالِم له آلياته وجهازه المفاهيمي لتوصيف الظواهر والأحوال وتشريحها، ومستوى شعبي يجعل حياة أهل الجبال يتحركون بسلالة، فيما يشبه ما يطلق عليه في العلوم الاجتماعية بـ”الملاحظة بالمشاركة”. لذلك لم يكن السارد مندسا في المشهد وإنما كان يقوم بدوره كاملا في المسرحية. وهذا ما أضفى على الرواية ثراء وكثافة، بالنظر إلى، لغتها البديعة،و الخلفية النصية التي قام عليها متنها الحكائي وإلى تنوع أدوات الكتابة(من فنون وأشكال تعبيرية مختلفة). الأمر الذي منحها نكهة تقرن بين الإفادة الرصينة والإمتاع الذي لا تخطئه قراءة.
محمد أبو العلا، حين يزهر اللوز، دار فاصلة، طنجة، 2020.