كوكاس يكتب..آه لو تدرون أن كلفة التجهيل أكبر وأخطر من كلفة التعليم
بقلم عبدالعزيز كوكاس
“رأس الحكمة استباق العواقب”.. نورمان كازنز
يعاني التعليم بالمغرب من مجموعة من المشاكل البنيوية التي تحول دون أن يسهم في تخريج أطر من مستوى عال يحتاجها الاقتصاد الوطني، كما أن المدرسة كمؤسسة للتنشئة الاجتماعية أصبحت متخلفة عن دورها ويكفي النظر إلى التقارير الصادرة عن مؤسسات رسمية نفسها من المجلس الأعلى للتعليم إلى المندوبية السامية للتخطيط للوصول إلى هكذا نتيجة..
ظلت الدولة تشكو دوما من الكلفة الباهظة للتعليم الذي يمتص 28 في المائة من الميزانية العامة، 90 في المائة منها تصرف على شكل أجور لفائدة أطر التعليم الذي يتجاوز عددهم 300 ألف موظف.. ومع ذلك ومنذ نهاية القرن الماضي شهدت ميزانية التعليم ارتفاعا ملحوظا آخرها أن ميزانية التعليم عام 2019 ارتفعت إلى أزيد من 62 مليار درهم سعيا إلى تعزيز الحصول على التعليم وتحسين البنية التحتية لا سيما في المناطق النائية.. وحصلت وزارة التربية الوطنية على زيادة في ميزانيتها خلال سنة 2020، وصلت إلى أزيد من 10 مليار درهم، لتنتقل من 62 مليارا و32 مليون درهم سنة 2019، إلى 72 مليارا و424 مليون درهم.. ومع ذلك ازدادت أحوال التعليم سوءا وقلت المردودية وعدم ربط التعليم بالتنمية، وتفاقمت المشاكل التي زادت من تدني المردودية التعليمية ومن ثقة المغاربة في التعليم خاصة العمومي..
وطيلة عقود طويلة ظل المسؤولون الحكوميون يشتكون من الكلفة الباهظة للتعليم كقطاع “غير منتج” أو “مؤجل المردودية”، ويرددون على مسامعنا الاهتمام الذي توليه الدولة لقطاع التربية والتكوين.. اليوم مع جائحة كورونا اتضح بشكل كاف أن الكلفة الباهظة للتجهيل هي أخطر بأضعاف مضاعفة لتكلفة التعليم، وها قد جربت الدولة نفسها العوائق التي انتصبت أمام سياساتها وقراراتها خلال مرحلة الوباء المستمرة حتى اليوم، هل لا زال بالإمكان أن ترتفع هذه الأصوات الغريبة للحديث عن الكلفة الباهظة للتعليم ببلدنا، كما لو أن كلفة الجهل والتجهيل يسيرة ومنخفضة؟
التعليم هو أس كل الثورات الكبرى.. تلك بديهة لا تحتاج إلى إقامة البرهان عليها، فالتاريخ أكبر معلم في هذا الباب، لكن في بلدي ظل التعليم هو أساس كل الأعطاب.. بالأمس كانت المدرسة الوطنية أداة حقيقية للتنشئة الاجتماعية، والكتاب المدرسي كان يصل إلى أقصى الدواوير والمداشر قبل الماء والكهرباء.. كانت وظيفة “معلم” نموذجا إيجابيا للنجاح، والبدل والتضحية والعطاء.. لكن فجأة تغير كل شيء.
بالأمس كان المعلم رسولا يكاد يركع له الجبابرة وهم صاغرون، يحظى بالاحترام والتقدير، والمدرسة العمومية محط أحلام وأداة للترقي الاجتماعي للأسرة ووسيلة لإعادة توزيع الثروة، حيث كان الآباء يستثمرون في أبنائهم طمعا في تغيير حقيقي، ولو أنه مؤجل المردودية، لوضعهم الاجتماعي.
اليوم، التعليم أضحى مثل محطة للانتظار، دار حضانة تحرس التلاميذ إلى حين، وتنقذهم من الشارع قبل أن ترميهم في أحضان البطالة بلا أفق، وأضحى المعلم نموذجا بارزاً للبؤس الاجتماعي “مسكين”، وأضحت الدعارة للأسف المجال الذي يسمح بإعادة توزيع الثروة أشرف وأنبل من التعليم الذي أصبح باهظ الكلفة بالنسبة للمسؤولين، لكنه لا يؤدي إلى أي خلخلة للبنية الاجتماعية السائدة، بل بالعكس زاد اندحاره وتخلفه..
يجب أن نعترف أن التعليم لم يكن بالجودة التي نطمح إليها، حتى جاءت هذه الحكومة، ليصبح بهذه الدرجة من السوء، لكن يجب الإقرار أن الاستمرار من شكوى ارتفاع تكلفة التعليم ظل السيد الشاغل بدل فتح ملف التعليم على مصراعيه برؤية إستراتيجية عميقة.. وتخلفت أدوار المؤسسة التي كانت مؤثرة في محيطها الاجتماعي فأضحت متأثرة بكل المفاسد التي تحيط بالمجتمع في أحط أنواعها.. وتخلى المجتمع نفسه عن المدرسة وتركها لأزماتها المتراكمة..
أزمة التعليم أعمق من ذهاب وزير أو بقائه، لأن الأمر يتعلق بالبنية العميقة للتغيير، فالمدرسة العمومية أضحت خارج مجال الاهتمام العام، أقصد المجتمع بكل تصنيفاته والسلطة السياسية بجميع مؤسساتها، أضحت المدرسة متروكة لهاجسها الخاص ومشاكلها النوعية، بلا اهتمام من المحيط.. ولم يعد يُنظر إلى التعليم إلا من جانب تكلفته الباهظة على الميزانية العمومية، لكنها تكلفة بلا جدوى في محصلة التقييم العام، لأن التعليم لم يعد يخلق الأمل في تطوير الوضع الاجتماعي، أو تحقيق مردودية أكبر من تكلفته، ولا في تغذية سوق اقتصادي مثمر، بل بالعكس من ذلك، أضحى التعليم مكلفا للدولة والأسر، ومخارجه لم تعد تشجع على توسيع مداخله.. وفي هذه العقبة بالذات ظل حمار جل الوزراء يقف لا حول ولا قوة له أمام عقبات التعليم التي تراكمت مشاكله وتعقدت بالشكل الذي لم نعد نعرف من أين نبدأ.
طيلة أكثر من ست عقود من الاستقلال لم نعثر بعد على شكل التعليم المنتج الملائم لطبيعة وثقافة المجتمع المغربي.. كان التعليم محط رهانات مختلفة، بالنسبة للسلطة هو مجال لإعادة إنتاج الرأسمال الوطني، المادي والرمزي، ومجال لتأطير المحكومين وخلق “المواطن الصالح” وفق تصور الفئات السائدة في المجتمع، كما يفسر ذلك بيير بورديو.. وهو بالنسبة للحركة الوطنية مجال خصب للتعبئة السياسية ومشتل لصناعة الأطر الموالية، وزرع القيم المضادة للمؤسسات السائدة.. وكانت النقابات التعليمية الدينامو الأساسي لعصب أي حركة سياسية معارضة من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التحرر والاشتراكية إلى مكونات اليسار الجذري.. وكان جل قادة المعارضة من التعليم (علال الفاسي، عبد الرحيم بوعبيد، علي يعتة، نوبير الأموي، عبد السلام ياسين…).
كانت المدرسة العمومية محط رهانات متناقضة، ثقافيا وسياسيا واقتصاديا.. وعلى المستوى الاجتماعي، كان التعليم الباب.. الأمثل للترقي الاجتماعي ومحط آمال جماهير عريضة للخروج من الفقر وتحسين شروط الحياة من خلال تعليم أبنائها.
في السبعينيات من القرن الماضي، وفي ظل فورة المؤسسات التعليمية بمختلف مستوياتها، كانت السلطة السياسية تنظر بغير عين الرضا للمسار التعليمي، من حيث كلفة ميزانية التعليم، ونجاح المعارضة في استقطاب أطره، ممن أسماهم الراحل الحسن الثاني في خطاب غاضب “أشباه المثقفين”… كانت الشعارات الأربعة: “التعليم، التوحيد، التعريب، المغربة”، حصان طروادة جل مكونات الحركة الوطنية لمواجهة ما أسمته بالتعليم اللاشعبي اللاوطني… ووصلنا إلى مناظرة إفران سنة 1980، للبحث عن مخرج من الأزمة، لكن بدون أفق ولا إرادة سياسية، وكان علينا استخدام كل وصفات التجريب الارتجالي لمعالجة داء التعليم لكن دون أن تفلح.. دولة، نقابات، أحزاب… لاعتبارات من غير جنس التعليم وحاجياتها بل بسبب الحسابات السياسية أساسا.. وكان علينا انتظار منتصف التسعينيات لنقر بالمسار المخيف الذي يسير نحوه التعليم ومصير المدرسة الوطنية خاصة مع توالي رموز من المعارضة القديمة على رأس وزارة التربية الوطنية من إسماعيل العلوي وعبد الله ساعف ومحمد الوفا إلى أحمد اخشيشن…
اعتبر تشكيل لجنة الميثاق الوطني للتربية والتكوين من مختلف الحساسيات تحت إشراف الراحل مزيان بلفقيه والمشروع المنبثق عنها حدا أدنى للتوافق الوطني، بما حمله من خيارات إستراتيجية طموحة، وبعدها جاء مخطط البرنامج الاستعجالي وبتمويل استثنائي وباقي الحكاية تعرفونها.. أعتبر ذلك خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن الحلو ما يكملش كما يقول أهل الكنانة، إذ لم ننجح في تحقيق تعليم يكون مدخلا لجعلنا ننتمي إلى مجتمع المعرفة، وكل التقارير الدولية تصنفنا في ذيل الدول المتخلفة في مجال التربية والتكوين، أين مكمن العطب إذن؟
لم ينجح الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ليس بسبب عدم ملاءمته مع التربة التعليمية لتنشئة الأجيال، وليس لخصاص مالي، أو لغياب أو تخلف الأطر التي يمكن أن تنقل الفكرة الحاملة لتحولها إلى وقائع عينية ملموسة… ولكن فشل ميثاق التربية والتكوين لخلفية سياسية هي أحد إسقاطات الماضي، إبان الصراع حول السلطة… وفشلت معه المقاربات التالية التي أصبحت استعراضية أو ترقيعية بدون أفق ولا قدرة على الذهاب إلى أبعد مدى في إصلاح شامل للمنظومة التعليمية، واليوم ها نحن نعي الكلفة الباهظة للجهل والتجهيل وسنكتوي أكثر بنيرانها إذا لم نمتلك الجرأة ليس لقول الحقيقة فقط حول تعليمنا، بل لامتلاك الجرأة لتطهير حدائق جورجياس من كل القذارة كما يقول اليونانيون.