أخر الأخبار
الرئيسية » اخبار » الأرشيف العمومي ورهـان الاستدامـة

الأرشيف العمومي ورهـان الاستدامـة

بقلم: عزيز لعويسي

 إذا كانت “التنمية المستدامة “في بعدها الشمولي، تستحضر الأبعاد الاجتماعية والبيئية إلى جانب الأبعاد الاقتصادية، في إطار رؤية مندمجة، تقوم أساسا على تلبية حاجيات الأجيال الحالية، دون المساس بمصالح وحقـوق الأجيال القادمة، فإن الاستدامة في مجال الأرشيف، تفرض علينا كأجيال حالية، التقيد بجملة من المسؤوليات والواجبات الأرشيفية، تجاه الأجيال القادمة، منها على الخصوص:

 

أولا: حفظ وصون وتثمين، ما وصل إلينا من  إرث وثائقي، عاكس لأفعال وتصرفات وممارسات وأفكار وأنماط عيش  الأجيال السابقة، وحسن استثماره، وضمان انتقاله السلس إلى الأجيال القادمة؛

ثانيا: التدبير الأمثل  لما أنتجناه وننتجه كأجيال حالية، من  وثائــق أرشيفية، بما يساعد على تنظيم المعلومة وتيسيـر سبل الولوج إليها، وصناعة القرار، والإتاحة في إطار الضوابط القانونية، وخدمة ثقافة النزاهة والشفافية والمسؤولية والمحاسبة …؛

ثالثا: توجيه ممارساتنا الأرشيفية  بشكل يلبي حاجياتنا  كأجيال حالية، مع مراعاة حاجيات الأجيال القادمة، التي من مسؤولياتنا المواطنة، أن نوصل إليها ممارساتنا الأرشيفية وممارسات أسلافنا، في حالة صحية سليمة، في إطار استمرارية “الأرشيف وديمومته، كإرث مجتمعي؛

 

وبمفهوم المخالفة، فأي إتلاف عشوائي للأرشيف خارج الضوابط والمساطر القانونية أو سرقته،  أو عدم الالتـزام بالجداول الزمنية لحفظه، أو تجاهل إعداد مخططات استعجالية لحمايته من خطر الكوارث الطبيعية والبيئية والحوادث الخاصة، يفضي إلى  تعريض إرثنا الأرشيفي  وما أنتجناه وننتجه من تراث وثائقي، إلى  خطر الزوال والاندثـار، بكل  ما لذلك  من تكلفة “تراثية” و”حداثية”، وبممارسات  غير واعية من هذا القبيل، نكـــون قد حرمنا الأجيال القادمة، من حقها المشروع ، في تملك إرثنا الوثائقي وإرث من  سبقنا، وأحدثنا ارتباكا على مستوى سيرورة الدولة واستمراريتها؛

 

بعد “الاستدامة” في مجال الأرشيف، لا يرتبط فقط، بالتزاماتنا تجــاه الأجيال السابقة واللاحقـة على مستـوى حفظ الإرث الأرشيفي وتثمينــه، وضمان انتقاله السلس عبر الأجيــال، بل  تحضر تفاصيله في عملية إتـلاف الأرشيفات التي لا تتوفر على أية فائدة  تراثية  وتاريخية وحقوقية وعلمية…،  وهذه العملية تتحكم فيها عدة أهداف  دافعة في اتجاه عقلنة تدبير الأرشيف وترشيد النفقات، مرتبطة أساسا بالاستفادة من مساحات التخزين بمستودعات الحفظ بعد إتلاف الأرشيفات، وتقليص تكلفـة تفويض تدبيـر وحفظ الأرشيف التي تثقل كاهل الدولة، فضلا عن دورها في  ” ضبط عمليات تدبير الأرشيف العمومي على المستوى الوطني”، و”تفادي إتلاف الوثائق الأرشيفية التي يمكن أن تتضمن قيمة قانونية وتاريخية وعلمية”، و”ضمان الحفاظ على سرية المعطيات ذات الطابع الشخصي”، و”تفادي العقوبات الزجرية المنصوص عليها في القانون رقم 69.99  المتعلق بالأرشيف، في حالة  مخالفة إجراءات القيام بعمليات إتلاف الأرشيف”؛

 

كما أن “بعد لاستدامة”، يفرض  الابتعاد عن آليات الإتلاف  ذات الطابع العشوائي  من قبيل “الحرق” و”التقطيع والرمي في قمامات النفايات”، لما لها من تأثيرات مباشرة على المنظومة البيئية   (تلوث الهواء، تلوت التربة ..)، والرهان  على حل مستدام  على مستوى التخلص من الوثائق الأرشيفية،  يتجسد أساسا، في اعتماد “تقنية  التدوير”  لأهميتها البيئية، فيما يتعلق بالمحافظة على البيئة  وحمايتها من مخاطر التلوث، وأهميتها الاجتماعية والاقتصادية،  المرتبطة  بإنعاش  نشاط اقتصادي متيح للدخل ومدر لفرص  الشغل (نشاط تدوير الأرشيف)،   وبترشيد النفقات والتخفيف من كلفة إنتاج المعدات الورقية، في ظل الارتفاع المهول لأسعار الورق على مستوى الأسواق العالمية، بسبب  ارتفاع أسعار المواد الأولية التي تدخل في صناعة الورقة، وأزمة الطاقة العالمية، واختلال سلاسل الإنتاج  على المستوى الدولي …

 

اللجوء إلى “خيار التدوير الأرشيفي”  ليس فقط، ممارسة ذات صلة بعصرنة  وعقلنة تدبير الأرشيف العمومي، بل وضرورة ملحة ومستعجلة،  منسجمة مع  توجه العالم نحو “الاستدامة” في ظل الإجهاد المقلق، الذي تتعرض له الموارد الطبيعية (تربة، ماء، غابة، ثروات بحرية، معادن، مصادر طاقة)، ما يعرضها إلى خطر الاستنزاف والزوال، ومستجيبة  لضرورات  التقيد بآليات  عقلنـة وترشيـد النفقات العموميـة،  أمام  الارتفاع المهول الذي تشهده أسعار المواد الأولية عبر العالم، ومنها تلك التي تدخل في  الصناعات الورقية والكرتونية؛

 

ارتفاع أسعار الورق عبر العالم، يرخي بكل ثقله وتداعياته على  عدد من القطاعات، ومنها قطاع الأرشيف، بما أن “الورق” لازال يشكل  العمود الفقري للممارسة الإدارية، مما شكل ويشكل أعباء مالية ثقيلة، على الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات والمقاولات  العمومية، فيما يتعلق بالتـــزود بالمعدات الورقية والكرتونية واللوازم المكتبية، وحتى في غياب المعلومة، بخصوص واقع حال صناعة الورق والكرتون  بالمغرب، ومدى  تنافسية المقاولات المغربية المتخصصة في هذه الصناعة الحيوية ، ومدى تأثرها بارتفاع أسعار المواد الأولية على المستوى الدولي،  ومدى دعم الدولة لهذا القطاع الصناعي الاستراتيجي، يمكن بسط الأسئلة التالية:

 

  • كم تنفق الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات والمقاولات العمومية، في الشق المتعلق باقتناء المعدات الورقية والمكتبية، من ورق وعلب كرتونية وملفات وغيرها؟
  • ما هي التداعيات المالية للارتفاع المتنامي لأسعار الورق، على الهيئات المنتجة للأرشيف، من دولة وجماعات ترابية ومؤسسات ومقاولات عمومية؟
  • أية حلول معتمدة لعقلنة وترشيد استعمال المعدات الورقية والكرتونية في أوساط مختلف إدارات ومؤسسات الدولة والجماعات الترابية؟
  • أية حلول مستدامة اعتمدتها الهيئات المذكورة، لمواجهة الارتفاع الصاروخي في أسعار الورق عبر العالم؟
  • أية حلول استعجالية اتخذتها بعض القطاعات الأكثر استهلاكا للورق، وفي مقدمتها قطاع التربية  الوطنية والتعليم الأولي والرياضة  والتعليم العالي  (أوراق الامتحانات الإشهادية، أوراق الامتحانات الجامعية، أوراق الفروض، أوراق التحرير، أوراق التسويد، وثائق التلاميذ والطلبة..)؟
  • أية حلول متاحة أمام الإدارة   (غير آلية التدويـر) دافعة في اتجاه مواجهة  ارتفاع أسعار الورق وترشيد النفقات؟

 

ومهما أسهبنا في بسط الأسئلة، أو اختلفنا في مقاربة أجوبتها، هناك حقيقة ثابتة لا يمكن الاختلاف بشأنها، مفادها أن الهيئات المنتجة للأرشيف،  باتت ملـزمة باللجــوء إلى “تدوير الأرشيف” كخيار محافظ على البيئة، ومعزز لثقافة ترشيد النفقات العمومية، في  ظرفية دولية موسومة بالارتفاع الحاد في أسعار المواد الأولية، ومنها التي تدخل في  صناعة الورق والكرتون، وإذا كنا متفقين على المبدأ  (التدويــر)، يبقى النقاش مفتوحا، حول سبل أجرأة  وتفعيل هذا التدوير الأرشيفي على أرض الواقع، بما في ذلك الجهة أو الجهات التي ستناط بها مهمة الإشراف على  التدويــر، ويبقى الحل الملائم، إما أن يتحمل كل قطاع وزاري مسؤولية  تدوير ما ينتجه من أرشيفات،  أو  العمل على تجميع كل الأرشيفات العمومية التي تقرر إتلافها، في مستودعات خاصة معدة لهذا الغرض، على أن تتولى مقاولة متخصصة مباشرة عمليات التدوير، تحت إشراف السلطة الوصية على الأرشيف العمومي، على أساس أن  تستثمر  العائدات المالية، في خدمة  مشاريع “أرشيف المغرب” المنخرطة في استراتيجية جديدة للأرشيف، والنهوض بالتكوين المستمر في مجال الأرشيف  وتنمية ثقافته،  وســواء تعلق الأمر بالحل الأول أو الثاني، فإن  ورش تدوير الأرشيف العمومي، يحتاج إلى  إرادة سياسية، لما يتطلبه التدوير من أطر قانونية وتنظيمية؛

 

وبدون شك، فالحديث عن “التدوير  الأرشيفي” لا يمكن أن يستقيم، دون  انخراط  “مواطن” للمقاولات المغربية الرائدة في صناعة الورق والكرتون، في التنمية الأرشيفية التي تسعى “أرشيف المغرب” إلى كسب رهاناتها، في ضوء  ما أعدته من استراتيجية جديدة للأرشيف خلال العشرية الجارية، وذلك من باب المسؤولية الفردية والجماعية في صون التراث الأرشيفي الوطني وتنميته وتثمينه، وهذه المقاولات المغربية، مدعوة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لمد جسور التواصل مع المؤسسة الوصية على الأرشيف العمومي (أرشيف المغرب)، من أجل التباحث  حول سبل تنمية التعاون المشترك، حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، ومنها على الخصوص، تمكين “أرشيف المغرب” مما تحتاجه من معدات ورقية وكرتونية  ذات صلة بحفظ الأرشيف، بأسعار تفضيلية، وخدمة  رهان “التدوير الأرشيفي المستدام”، عبر  وضع الخبرة التقنية اللازمة رهن إشـارة “أرشيف المغرب” في مجال “تدويـر الأرشيف”، أما المؤسسة الأرشيفية، فبإمكانها بدورها، مد المقاولات المعنية بالخبـرة الأرشيفية الضرورية، بما يساعدها على  التنظيم الأمثل لما تنتجه وتكونه من  وثائق أرشيفية، تنظيما للمعلومة وتيسيرا للولــوج إليها…؛

 

 مع ضرورة التأكيد، أن المقاولات المغربية عموما، والمتخصصة في صناعة  الورق والكرتون خصوصا، بقدر ما تسعى إلى تطوير وسائل  العمل، والرفع من الإنتاج  والسعي  نحو تحقيق الربح،  والانفتاح على الأسواق الواعدة، بقدر ما تتحمل مسؤوليات  تضامنية “مواطنة”، تفرض عليها الانخراط في  مسيرة البناء والنماء، التي يقودها عاهل البلاد، بصمت وحكمة وتبصر، وهي مطالبة بالإسهام في “التنمية الأرشيفية المستدامة”، وأي تحرك منها في هذا الاتجاه، لن يكـون إلا تحركا من أجل الوطن، بما أن  “الأرشيف” هو إرث مشترك للمغاربة قاطبة، عاكس لتاريخ الأمة ومعبر عن ذاكرتها الجمعية وهويتها المشتركة؛

 

ونختم بالقول، أن الهيئات المنتجة للأرشيف العمومي، وعلاوة على الأهميـة “البيئية” و”الاجتماعية” و”الاقتصادية” للتدوير الأرشيفي، لابد لها أن تنخرط في “الأرشفة الإلكترونية” التي باتت خيارا لا محيد عنه، في زمن التحول الرقمي، لما يمكن أن تضطلع به من أدوار دافعة في اتجاه النهوض بواقع الممارسة الأرشيفية العمومية، وهذه الهيئات مطالبة، بالحفظ التدريجي لأرشيفاتها الوسيطة والنهائية في شكل “أرشيف إلكترونية”، تنفيذا لمقتضى المادتين 8 و11 من القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف، وهذا الحل الإلكتروني، هو آلية  قانونية أخرى، من شأنها الإسهام في عقلنة وعصرنة تدبير الأرشيف العمومي، وفي ترشيد النفقات الأرشيفية، لما يتيحه من  مساحات  للتخزين، تعفي الهيئات المنتجة للأرشيف من استئجار أماكن/ مستودعات إضافية  خاصة بالحفظ، ومن اقتناء الأجهزة  والمعدات اللازمة من قبيل “الكاميرات” و”الرافعات” وغيرها، ومن  المبالغ المالية الضخمة التي  تضخ  لتأمين الأرشيفات المتراكمة من خطر السرقات والكوارث والحوادث الفجائية، فضلا عن أهمية الأرشفة الإلكترونية في  ربح الوقت وتسهيل الولوج إلى المعلومة وصناعة القرار؛

 

بقيت الإشـارة إلى أن الوزارة المكلفة بالانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة، مطالبة بالتفكير في حلول عملية وميسرة، من شأنها ليس فقط، الإسهام في تبسيط الخدمات الإدارية والنهوض بالإدارة الإلكترونية، بل التنسيق مع المؤسسة الوصية على الأرشيف العمومي، لوضع  استراتيجية جديدة، تروم “التحكم القبلي” في الأرشيف، قبل إنتاجه وتكوينه، عبر التقليص  مثلا، من  حجم الوثائق الإدارية الواجب على المواطنين الإدلاء بها أمام الإدارة، لقضاء أغراضهم ومصالحهم الإدارية، وإلزام الإدارات والمؤسسات والجماعات الترابية باعتماد الحلول الإلكترونية في علاقاتها مع المرتفقين، وكلها تدابير وإجراءات، من شأنها خدمة المسألة الأرشيفية والنهوض بالتنمية الأرشيفية المستدامة.