وصية “إيــــزابيـلا” .. عداء خالد للمغـرب
موقع منار اليوم الثلاثاء 08 يونيو 2021.- بقلم : عزيز لعويــسي
إذا كانت الأنظار موجهة بالكامل نحو “بن بطوش” أو “غالي” الذي خلق أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين الرباط ومدريد، وخاصة نحو الحكومة الإسبانية التي استطاعت الدبلوماسية المغربية أن تكشف عن سوءتها أمام العالم، فإن الأزمة القائمة بين البلدين، لايمكن فهمها إلا بالنبش في حفريات تاريخ العلاقات الإسبانية المغربية، وهو نبش لن يكـون إلا قاصرا ومحدودا، ما لم يتم التوقف عند ملكة قشتالة “إيزابيلا الكاثوليكية” التي تركت قبيل وفاتها بداية القرن 16م وصية شهيـرة للإسبـان، حاملة لمشاعر الحقد والكراهية والعنصرية والاستعلاء تجاه الشعوب الإفريقية، حيث تمنت من خلالها، أن يكون المغرب بلدا مشتتا جاهلا فقيرا مريضا على الدوام، وقد ورد في هذه الوصية التاريخية التي تناقلتها الكثير من المصادر والمراجع ما يلي :
“أوصي وأنصح وآمر بالطاعة النهائية للكنيسة الكاثوليكية والدفاع عنها دائما وأبـدا بكل غال ونفيـس من الأموال والأرواح، وآمركم بعدم التردد في التخطيـط لتنصيـر المغرب وإفريقيا ونشـر المسيحية فيهما ضمانا لكل استمـرار كاثوليكي في جزيـرة أيبيريا الصامدة، ومن أجل ذلك فالخير كل الخير لإسبانيا في أن يكون المغرب بلـدا مشتتـا جاهـلا فقيـرا مريضـا على الدوام والاستمـرار” (المصدر : أنا ماريا طـوريـس، العلاقات بين البرتغال وقشتالة في زمن الاكتشافات الجغرافية والتوسع الاستعماري”، ص 72، ترجمها إلى العربية علي الريسـوني التطواني في “مغرب لا يقهـر .. ولكن”، ص 9 ).
وهي وصية وصل فيها الحقد مداه والكراهية للمغرب منتهاها، ضاربة قيم المحبة والتسامح والسلام والأخوة والعيش المشترك التي تقاسمتها الديانات السماوية الثلاث، ولمبـادئ حسن الجوار التي تفرضها “الجغرافيا” التي جعلت من المغرب، البلد العربي الإسلامي الإفريقي الأقـرب إلى حدود إسبانيا وأروبا، مكرسـة مشاعر الحقد والكراهية الخالدة في المخيال الشعبي الإسبانـي نحـو المغرب عبر التاريخ، وهي مشاعر شكلت على الدوام الخيط الناظم الذي تأسست عليه علاقة الإسبان بجيرانهم المغاربـة، والتي حضرت مشاهدها، فيما تعرض له المغرب عبر التاريخ من تحرشات واستفزازات وتدخلات عسكرية، كما حدث في المد الإيبيـري على السواحل العربية و المغربية بشكل خاص خلال القرنين 15 و16م، والذي كان من نتائجه احتلال مجموعة من الثغـور المغربية في الساحل المتوسطي والأطلنتي، من ضمنها مدينتي سبتة ومليلية المحتلتيـن وما يرتبط بهما من جزر، نتيجة ما كانت عليه الدولة المغربية خلال فترات تاريخية مختلفة من ضعف سياسي وهوان اقتصادي وتواضع عسكري، فتح شهية البرتغال والإسبان للسيطرة على سواحل المغرب، وفـاء لوصيـة “إيزابيلا” الخالـدة، كما فتحت شهية القوى الإمبريالية ومنها الإسبان خلال القرنين 19م ومطلع القرن20م لإخضاع المغرب إلى مسلسل طويل من الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية، انتهى لفائدة فرنسا وإسبانيا / إيزابيـلا، بشكل يــوحي أن الدول الأوربية تتقاسم جميعها ما تمنتـه “إيزابيـلا” للمغرب منذ ما يزيد عن خمسة قرون.
ورغم اختلاف الظروف والأزمة والأمكنة، لازالت روح وصية “إيزابيـلا” حاضرة في أفكار الإسبان وتحديدا في الأدبيات السياسية لبعض الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة، ومنها حزب ” فوكس” المعروف بمعاداته وكراهيته للمهاجرين وخاصة المسلمين، وهي المشاعر العدائية التي عبـر عنها رئيس الحزب في زيـارة سابقة له لمدينة “سبتة المحتلة”، ألقـى فيها كلمة بحضور بعض الأتبـاع، لم يجد فيها أي حـرج في الدفاع عن “إسبانية” سبتة ومليلية المغربيتين، ومهاجمة المغرب والتعبير عن مشاعر العداء للمهاجريـن السرييـن، دون أن يشير لا من قريب ولا من بعيـد إلى السبب الحقيقي الذي فجر الأزمة بين الرباط ومدريـد، وهي خطـوة مستفـزة ، تعبر بما يدع مجالا للشك، أن أزمة الرباط ومدريد، تتجـاوز حدود المغضوب عليه “محمد بن بطوش”.
وعلى عكـس ما اشتهته سفينة “إيزابيلا” الكاثوليكية قبل قرون، فقـد تغيـر المغرب من منطلقات التاريخ الذي يخضـع لسـنن التحول والتغييـر، ومن منطق العلاقات الدولية التي لا تستقـر سفينتها على حال، ومن باب أحقية الشعـوب المستضعفة في تطويـر الذات والرفـع من القدرات بما يضمن تحقيق الحرية والكرامة والسيادة على مستوى اتخاذ القـرار، ولاعتبارات مشروعة مرتبطة بالحق المشروع للدول في البحث عن الشركاء والحلفاء، بما يسمح لها بحسـن التموقع في مجال عالمي يخضـع إلى منطق التـوازنات وقواعد اللعب التي تتغير باستمرار والمكاسب والمصالح المتبـادلة.
وعلى خلاف من لازال يجتر الأفكار المتطرفة لإيزابيـلا، تحول مغرب اليوم إلى قـوة إقليمية ذات مكانة اقتصادية وعسكرية وأمنية واستخباراتية ودبلوماسية، باتت أكثـر حزما وجرأة وإزعاجا للخصـوم أكثـر من أي وقت مضى، مخيبا بذلك أحـلام وآمال “إيزابيلا” ومن يسبح في فلك توصيتها الشهيرة من الإسبان المتطرفين والحاقدين والمتربصين، في أن يروا في المغرب بلدا جـارا “مشتتا” و”جاهلا” و”فقيرا” و”مريضا”، لذلك، يمكن أن نفهـم، الإصـرار المستدام للساسة الإسبان في معاداة الوحدة الترابية للمملكة، والاستمـرار في التمسك “غير الشرعي” بمدينتي سبـتة ومليلية المحتلتين في تزييـف صارخ لحقائق التاريخ ولمعطيات الجغرافيا، لأن هذا النهج يخدم “توصيـة التشتيت”.
وبما أن العداء الإسباني الخالد للمغرب ليس له حدود ولا قيـود، يمكن أن نستوعب بدقة، الإقــدام المتهور والفاقد للبوصلة للحكومة الإسبانية في حبك مؤامرة “بن بطوش” بمعيـة كابرانات “آل بطــوش” في انتهاك واضح لسلطة القضاء وحقوق الإنسان وللقيم الأوربية المشتركة ولمبادئ حسـن الجوار، في خطوة استفزازية بامتياز، تضرب عرض الحائط ما يجمع البلدين من شراكة متعددة المستويات، كما يمكن أن نستوعب الزيارات الاستفزازيـة التي قام بها بعض المسؤولين الإسبان للمدينتين المحتلتين في عز الأزمة القائمة، وعلى رأسهم رئيس الحكومة الإسبانية “بيدرو سانشيز”، دون إغفال بعض المواقف الأوربية عموما والإسبانية بشكل خاص الحاملة لمشاعر الابتزاز للمغرب ولوحدته الترابية، ويمكن الإشارة في هذا الصدد، إلى بعض الأصوات التي خرجت في عز أزمة الرباط ومدريد، معلنة عن حدود جديدة للاتحاد الأوربي تشمل المدينتين المحتلتين، في اعتداء جسيم على التاريخ وعدوان صارخ على الجغرافيا واغتيال وقح لحق الأمة المغربية في السيادة الكاملة على كافة ترابها.
والإسبان وغيرهم من الأوربيين المنتسبين إلى بعض التيارات اليمينية المتطرفة، لابد أن ينفلتوا من قبضة “وصية إيزابيلا” لما تحمله من أفكار متطرفة تؤجج مشاعر الحقد والكراهية والهمجيـة والعنصرية والاستعـلاء والعداء الخالد للمغرب ولباقي الشعوب الإفريقية، وأن يكونوا على بينة واقتنــاع، أن خير إسبانيا وخير أوربا عموما، يمر قطعا عبر بناء علاقات إنسانيـة مسؤولة مع باقي الشعوب والأمم ومن ضمنهم البلد الجار المغرب، مبنيــة على قيـم الصداقة والسلام والتسامح والعيـش المشترك، وعلى قواعد التعاون البناء والاحترام المتبادل ومبادئ حسن الجــوار والأمن والوحدة والاستقــرار، استحضارا لما يتهدد دول وشعوب المنطقة والعالم، من مخاطر وتحديات مشتركة مرتبطة بقضايا الهجرة غير النظامية والإرهاب والجرائم العابرة للدول والأزمات الوبائية وغيرها.
ونحن نخصص هذا المقال لتوجيه البوصلة نحو “إيزابيلا الكاثوليكية” في هذه الظرفية الخاصة التي تمر منها العلاقات بين الرباط ومدريد، ليس من باب تجييـش المشاعر المغربية والإفريقية أو الإسلامية، ولا من منطلق الدعوة إلى مواجهة إسبانيا و أوربا بنفس أساليب الحقد والعنصرية والاستعلاء والإقصـاء والكراهية والعداء الخالد، ولا حتى من أجل تصويب فوهة الإعلام المغربي نحو الإسبان ومن يتقاسم معهم عقيدة العداء “الإيـزابيلي”، ولكن للتأكيد أن أية خطـوة ترمي إلى تذويب جليد الخلافات والنعرات، والتأسيس لمستقبل آمن ومطمئن مبني على قيم المحبـة والسلام والتعاون والمصالح المشتركة في إطار من التوازن والاحتــرام، لن تتم إلا عبـر التخلص من قبضة التاريخ، الذي يعطي الشرعيـة لكل ممارسات العنصرية والاستقواء والاستعلاء والتحقيـر والابتزاز والعنف والكراهيـة، وعبر تحرير العقليات من أوهام الماضي الإمبريالي الذي شكل ولا زال يشكل نظرة عنصرية وتحقيرية للدول والشعوب المتطلعة إلى التحرر والكرامة وبناء الذات، مبنيـة على المصلحة والاستغلال ولا شيء غيرهما.
ونرى في هذا الإطار، أن أي تخلص أو تحرر من تاريخ العداء، لابد وأن يمر أولا وأخيرا عبر تصفية تركات الاستعمار الظالم وإعطاء الحقوق المسلوبة إلى أصحابها، كما هـو الحال بالنسبة لملف مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين وما يرتبط بهما من جــزر، وهذا الملف لابد أن يفتـح في إطار من المسؤولية والاتزان، بعيدا عن رواسب الماضي الاستعماري، مراعاة لمبادئ حسن الجوار، واستحضارا للمصالح المشتركة التي تربط بين البلديـن الجارين والصديقين، أما فيما يتعلق بملف الصحراء المغربية، فالجيران الإسبـان هم الأكثر معرفة بحقائق ومعطيات هذا النزاع المفتعل، باعتبارهم دولة استعماريـة سابقة، وآن الأوان أن يستوعبوا بدقة وواقعية، المتغيرات الجيوسياسية الجديدة، باتخاذ موقف إيجابي ومسؤول يقطع مع “ازواجية المواقف” التي لم يعد لها مكان في قاموس الدبلوماسية المغربية المتبصـرة، وليس أمامهم إلا الانخراط في دينامية “دبلوماسية القنصليات”، ووضـع اليد في يد جار جنوبي مسؤول، لبناء مستقبل آمن ومطمئـن، يتحقق معه الخير والنماء والأمن والسلام والعيـش المشترك، وقبل الختم، نؤكـد أن العلاقات الدولية تتحكم فيها لغة المكاسب والمصالح المتبـادلة، دون أي اعتبـار آخر، ونرى أن الجارة “مدريد” مطالبة هذه المرة، بالتكفيـر عن “خطيئة بن بطوش”، وذلك بالاحتكام إلى سلطة العقل والحكمة والمصلحة، وأية تغريدة خارج هذا السرب، لن تكون إلا رهانا على التفرقة والتوتـر والخلاف والاضطراب وعدم الاستقـرار…
ويؤسفنا “عزيزتي .. إيزابيلا” في نهاية هذا المقال، أن نخبرك أن “مغرب اليوم” ليس كما أوصيت وتمنيت قبل قرون، لقد بات قوة إقليمية مزعجة للجيران أكثر من أي وقت مضى، وأن نخبرك أيضا، أن وصيتك الشهيـرة والخالدة، قد تبناها حرفيـا وبتهـور وغبـاء عصي على الفهم والإدراك، إخوة لنا في الشـرق، يتقاسمون معنا روابط الدين والعروبـة والدم والتاريخ وحسن الجوار والمصير المشترك، يناورون ويتربصون ويتآمرون ويستنزفـون الطاقات والقدرات، لنكون كما أوصيت، بلدا “مشتتا” وجاهلا” و”فقيرا” و”مريضا”، لكن مهما أصروا على إضعافنا وتفقيرنا وعزلنا وابتزازنا، زدنا قـوة وصلابة وإصرارا وحزما .. ومهما تمـادى أحفادك الإسبان ومن يسير على طريق وصيتك الخالدة، في التشويش على وحدتنا وسلامة أراضينا، زدنا في منسوب الجرأة والحزم والفضح والإحـراج ..
نذكرك عزيزتي إيزابيـلا .. أننا استنفدنـا كل الصبر، ولم نعد نسمح بالمنـاورة الرخصية أو الضغط المتهور أو المؤامرة البئيسـة، ومن تجرأ أو تمادى أو حاول التحرك ضدنا من وراء حجـاب، نذكره ونذكرك أن للمغرب “عيـون لا تنام”، وأن الوطن، هو التربة الخصبة والطاهرة التي توحدنا مهما تفرقت بنا سبل الاختـلاف، ومن أجل الوطن سنبقى على العهد .. صابرون متضامنون أوفيـاء للوطن، ومخلصين لثوابت الأمة ومتمسكين بوحـدة التراب وسلامة الأرض .. ونخبرك أخيرا الراحلة “إيزابيلا”، أننا لن نبادلك الكراهية بالكراهية ولا الحقد بالحقد ولا العنصرية بالعنصريـة ولا العداء الخالد بالعداء الخالد .. لأن المغرب شعب مسالم ومسؤول ومتسامح ومتعاون، ويراعي الأخوة والصداقة وحسـن الجوار.. ارقــدي “إيزابيلا” في صمت، فنحن لا نملك سلطـة الإدانة أو الزجر أو العقاب .. لكن نحتكر مقابل ذلك، سلطة المواجهة والحزم والضغط والتصعيد والفضح والإرباك والاحـراج، وهي أسلحة فتاكة لا نتردد ولن نتردد في إشهـارها في وجـه أعداء الوطن، بمسؤولية ويقظة وواقعيـة وتبصـر.. وداعا “إيزابيـلا” .. وداعا “ملكة العداء الخالد” …