أخر الأخبار
الرئيسية » المنار الثقافي » “يد الحكاية ” مجموعة قصصية يكتبها لمنار اليوم في حلقات القاص والمبدع المغربي عبدالجليل لعميري ” الحلقة الخامسة “

“يد الحكاية ” مجموعة قصصية يكتبها لمنار اليوم في حلقات القاص والمبدع المغربي عبدالجليل لعميري ” الحلقة الخامسة “


موقع منار اليوم السبت 13 مارس 2021..

                                           الفـــــــــــــــصل الثــــــــــــــــــالث          

      الوسطى.

*(اذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية).

                                                  غسان كنفاني

     لالة زيمة 

    فتحت عيني على فضاء شاسع تسكنه مياه الأمطار طيلة السنة تقريبا، خصوصا في المواسم الممطرة…وأنا أتسلق سنين العمر بدأت اقترب من هذا الفضاء الباذخ….سبخة ممتدة على عشرات الكلومترات المربعة، بها ماء وبياض كثير كنت أظنه حجارة بيضاء، ولكني عرفت  لاحقا أن السبخة منجم ملح طبيعي يشتغل به عشرات العمال، ويصدر الملح إلى جل مناطق البلاد….آه …ذاك إذاً جبل ملح و تلك أحواضه. إنها بحيرة زيمة أو قل سبخة زيمة….ولكن لماذا تسميها نساء الدوار ب”لالة زيمة”؟ ولماذا يزرنها ويعلقن بقايا ملابسهن على  نخلتها الوحيدة؟ هل هناك ضريح لامرأة اسمها زيمة؟

   – لا،لا …قال لي الكبار…ثم أضاف جدي: هي أرض مباركة….يقال ان النبي مر من هنا ..

  – “ولكن لماذا الرجال لا يحترمونها مثل النساء “؟ سؤال كتمته في نفسي وأنا أتذكر قنص بعض رجال الدوار للغرنيق والإوز الوافدين على السبخة…وسرقة بعض أهل الدوار للملح.

  سأدمن التردد على البحيرة وتأمل جمالها، خصوصا في الأيام الربيعية، وتأمل جمال النحام الوردي. هذا الطائر الأنيق حذر جدا و غريب  الأطوار، فهو لا يغادر الماء أبدا إلا إذا نضب. يظل  مرابطا  ليل نهار بقلب البحيرة بعيدا عن المتلصصين والمزعجين، وإذا حاولت الاقتراب منه لمسافة غير آمنة يطير في الفضاء ليختار موقعا بعيدا عنك…وهو لا يتغذى الا على حشرات صغيرة تعيش بالماء المالح تشبه “الروبيان” … أمر لا يعرفه معظم الناس مما يدفعهم الى الاستغراب من طائر لا يأكل….؟  ساخرين من نحافته…هذا الطائر الجميل يحل بالبحيرة مع مطلع بداية الأمطار وكأنه مبرمج على ذلك… و رغم انه لا يستوطن بالمكان فانه دائم الزيارة. وحذره هو الذي جعله دائم التواجد بالمنطقة منذ عقود طويلة،على عكس الغرنيق الذي كان يباد ببشاعة من طرف السكان لأنه كان قليل الحذر ويبحث عن طعامه خارج السبخة، وهو سريع الوقوع في المصائد، ووفير اللحم الواحد منه يزن أكثر من عشر كيلوغرامات. لقد  بالغ الأهالي في قنصه إلى أن انقرض وجوده بالمنطقة.

   وأنا ازور المنطقة بعد سنوات من الغياب أصبت  بحزن كبير. أصبحت السبخة أقرب إلى خرابة . وتوقف إنتاج الملاحة وطرد عمالها. ولم تبق سوى بقايا آلات صدئة وحفر صماء…ضاع جبل الملح الأبيض وتوقفت الطيور عن زيارة المكان بعد  زحف مجاري المياه العادمة على المكان…

  عشية ذلك اليوم الكئيب نمت مهموما، وفي غمرة نومي استيقظت أتحسس نفسي، رأيت فيما يرى النائم أنني تحولت إلى طائر نحام، وسافرت عبر أجواء مختلفة من شمال أوربا وصولا إلى زيمة…..وحين وصولي حزنت لغياب الماء والمناظر الطبيعية الخلابة وقلت: ليس هذا ما حكاه لي أبواي….هل هذه هي سبخة زيمة الجميلة؟ وبكيت ….فتساقطت دموعي وفاضت جداولا ملأت خنادق السبخة وأحواضها…فتسابقت الطيور إلى العودة والنزول بالسبخة….وبدأ اللون الأبيض في الظهور….تحسست نفسي وقلت: اللهم اجعله خيرا…وأحسست بقليل من الارتياح…وقررت أن أبدا منذ الغد في حملة من اجل إنقاذ لالة زيمة مع الجمعيات المهتمة بالبيئة والتنمية….قلت: جميعا من أجل لالة زيمة…سيكون شعار حملتنا.

*لالة: بالدارجة المغربية تعني السيدة.

*العتروس الشهيد

  كانت كتيبة الإعدام التي شكلها المجلس البلدي أو الباشا مكونة من عدة فرق، انتشرت في أحياء البلدة بعد ان قسمت الى أربع مناطق كبرى. توجهت الفرقة الثالثة الى غرب البلدة في الطريق الى السوق الأسبوعي قرب السبخة. هناك مرتع الكلاب الضالة حيث تتعيش على بقايا “الكرنة” وبقايا الأكل بمقاهي الحصائر المنتشرة على جنبات السوق. كان أفراد الكتيبة الثالثة يحملون الهراوات وشباكا وأكياسا بلاستيكية سوداء كبيرة الحجم(رغم منع استعمال البلاستيك رسميا وتجريمه)، وكان ضمن أفراد الفرقة الخمسة قناص يحمل بندقية صيد من نوع “جويجة”. تسللوا الى فضاء السوق حيث تجمعت الكلاب الضالة وشكلوا مثلثا حولها وانطلقت الرصاصات صوب أجساد الكلاب وأزيزها يشق الأسماع: باق..طاق باق طاق…باق طاق.. وذعرت الكلاب فحاول بعضها الهروب أين ما اتفق وسقطت المصابة على الأرض تخرج ما تبقى فيها من عواء ونباح قبل ان تنهال عليها هراوات الكتيبة لتخرسها نهائيا. يطارد القناص الكلاب الهاربة التي تنط فوق سور السوق فينط معها ليقف فوق الحائط ويتحكم في الرؤية جيدا: طاق طاق طاق.. تتساقط الكلاب الهاربة وتصرخ امرأة وتولول “اناري عتروسي مات …اناري قتلتوا عتروسي يا ظلام يا كفرة….ما بقيتوا تفرقوا بين العتروس والكلب ؟؟؟حوالتوا”؟؟

  كان العتروس بلحيته الشعثاء التي تعلقت بها بقايا أزبال القمامة يتدرج في دمه. سارع إليه أحد أعضاء الكتيبة فذبحه. ولولت المرأة من جديد مستخرجة من جعبتها شتائم معتقة، فتدخل كبير الكتيبة و طمأنها بالتعويض عن جديها. قالت محتجة: “عتروس كال جدي؟” ورفع الجماعة العتروس ووضعوه في سيارة تحركت به نحو جهة مجهولة، بعد أن أجرى كبيرهم عدة مكالمات هاتفية طلب من المرأة ان تحضر البطاقة الوطنية وشاهدين لإثبات ملكيتها للجدي او العتروس وتذهب غدا الى الباشوية لتحصل على التعويض. وفي الليل كانت جماعة ضمنهم كبير الفرقة الثالثة وبعض كبار البلدة يحتسون الكؤوس وهم يتلذذون بلحم الجدي المشوي ويتضاحكون ….

 أما المرأة فقد قيل لها: “انت وطنية لأنك ضحيت بالعتروس ستحصلين على “كريمة”…” شكرتهم بحرارة شتائمها السابقة و شرعت في الحلم بال”كريمة”؟

*الك(g)ريمة: رخصة استغلال في النقل مثلا.

*أربعة مشاهد وحكاية

*المشهد 1:

    كنت يومها أقرب إلى الجنون …حشيش وماحية وقرقوبي…وليخفف الوالد من ضياعي فتح لي دكان بقالة…كنت قريبا من المسجد و الحمام…

  أدخن الكيف حين يكون متوفرا، وأفضله على الحشيش. إلا أن البحث عنه وإعداده يتطلب مجهودا أكبر. الحشيش أيسر فهو جاهز للاستهلاك فورا. قسمت الدكان إلى قسمين: الأمامي يحتوي المواد المعروضة للبيع مصفوفة في أرفف الخشب. ولا يشغل سوى ثلث مساحة الدكان الذي يغطي حوالي خمسين مترا مربعا. والثلثان جعلت جزء منهما للتخزين وآخر أفرشته وجعلته مقاما لقيلولتي وسهراتي ونزواتي. وفصلت بين الفضاءين بقطعة “كونتربلاكي”، تاركا فجوة كالباب مغطاة بإزار أسود سميك. وسط دخان الكيف والحشيش وروائح الماحية بدأت أتعلم حرفة البيع والشراء. كلما سئلت عن بضاعة غير متوفرة سجلت اسمها وطلبتها في اليوم التالي. كانت النساء زبوناتي المفضلات والكثيرات. كيسات الحمام…لبخور…زيت.. زيتون …صابون…بلدي و رومي….. كم هي كثيرة أوساخهن لا تكفيها مساحيق العالم كله….ما  أوسخهن لا استثني واحدة…أغمغم في  دواخلي.

*المشهد الثاني :

   كانت الغنيمات عائدة من المرعى، الخرفان تتراقص والأمهات تتمايل رؤوسها …تتمرغ  في تراب الأرض. التقت عينا أبي بنظرتي الشاردة فقال لي: أنظر فعل بقايا الشريحة(التين) في الأغنام. مخفيا ابتسامة ماكرة. أعرف ا ن أبي يمر في طريق عودته بالأغنام قرب حفرة على مشارف القرية هي عبارة عن مطرح لنفايات عصير “الماحية” المنتشرة معاملها السرية بدوارنا. هناك يتم التخلص من بقايا ثمار التين التي خمرت وعصرت لتقطير ماء الحياة المحلين، المعطر بعضه بعصير الجوارب وبودرة “سراق الزيت” و صدأ شفرات الحلاقة. “ضربة ببطلة”. شاربها قد يصل إلى القمر في رمشة عين بدون ضمان العودة…وقد يصبح قادرا على تقليد جميع أنواع الحيوانات ببراعة…هنيئا للغنيمات بمتعة أكل بقايا التين التي تنشطها وتمنحها السعادة في موسم عبوس يفوح جفافا.

*المشهد الثالث :

    سألتني هل أبيع (“باخا”؟ لم أكن اعرف ما هي. لكني قلت لها كالعارف: “موجودة …بالكموند…”. قالت: و بشحال ؟ غالية شوية …ولكن نتفاهم معاك…تتصارف معي؟ مرحبا ..ماشي مشكل رجعي عندي غدا). وهي تغادر مرق خالي علي العطار المتقاعد فخرجت إليه مسرعا: (خالي علي اشناهية باخا؟ ضحك حتى بانت أسنانه السوداء المهشمة: أصبحت عطارا أم سحارا؟ خاصني منها مقدار يكفي لنساء الدوار…لنساء أم رجال الدوار…بحال بحال ..عتقني…باخة يا مبخبخ توكال تعمله النساء الفاجرات لرجالتهم…والسبب يا خالي علي ؟ باش يولي مضبع ويولي واخا واخا…هاهاها…شكون هذه الحرامية التي تريدها..؟ا مرأتك أخالي علي…هاهاها وقهقهت ممازحا اياه…)فقهقه معي ولكزني في كتفي …ثم قال 🙁 تفروحتي اوليدي حميدة الله يعفو عليك…سير غدا اللسوق عند العطار ولد مباركة راه حدى رحبة (الطايب وهاري) وكيرفع العلام الخضر ديما فوق قيطونو…قل له انك من طرفي…).

 ما علينا ذهبت في الغد الى ولد مباركة فلم يصدق أنني مرسول خالي علي وباعني قطعة جلد بقر نتنة، كما سأعرف لاحقا، ببضعة دارهم .بعتها أنا لتلك المرأة ببضع عشرات وكلما مرق زوجها المغدور من أمامي أسأل نفسي: لماذا فعلت به ذلك؟ مياوم كادح يشتغل في البناء. يكدح طيلة النهار ويعود مهدودا في المساء. يعاقر الماحية ليلا وينبح كالكلاب لينام في مطلع الفجر الكاذب وتوقظه هي في السابعة ليجر جسده النحيل إلى ورشة العمل في أطراف المدينة… لعلها جربت فيه كل أنواع الموبقات. بعد أعوام كلما التقت نظراتنا تحاشتني كالمفزوعة. أما هو فقد ازداد نحوله… ونباحه كل ليلة..

*المشهد الرابع :

   قالت: أسمح لي أن أسالك سؤالا ضيقا من قلة صوابي…قولي ما عندك… بدون إحراج أخالتي رقية. قلت. “كنت أوليدي مريض…من قلة صوابي أحمق..كيف تعالجتي؟”.” فقيه من الجنوب عالجني وعطاني البركة بقدرة الله”. “ها العار عتقني اوليدي بنت بنتي مرضات لينا…”. “جيبيها ليا من بعد العشاء…عوميها”.

  أغلقت حانوتي مع الغروب واختليت خلف الإزار الأسود السميك فوق الإسفنجة المهترئة الموضوعة فوق حصير مزين بثقوب خلفتها نيران صديقة والمغطاة بملاءة سوداء تفوح منها روائح السجائر والماحية. حشوت صدري بالكثير من دخان الكيف وشربت بعض كؤوس الماحية وتخيلت نفسي وليا مقدسا يمنح الناس البركات. تراءت لي صفوف الناس تسد الطريق وأنا أخطب فيهم وأدعوهم إلى الله. ثم أتحول إلى زعيم سياسي “بكوستيم” أزرق أنيق وأدعوهم إلى تأسيس أعظم حزب في تاريخ البشرية “الرابطة الأممية للإنسانية”. حزب أممي له فروع في كل العالم. السعال يتصاعد….أنا وحيد لأن أوامري لعصابة الخلان كانت واضحة وصارمة “لا أحد يزورني هذه الليلة سأكون مشغولا بعيدا عن الدكان”. وأسمع طرقات خفيفة، أتسلل:(شكون؟ خالتك رقية)…أفتح الباب بحذر…دخلي…أنا جبت الدرية …هالعار داويها أوليدي وطلباتك مجابة. دخلت الفتاة وظلت جدتها مترددة: سمعي ديري بكلام الشريف…دخلي أخالتي رقية…بلاش أوليدي خدم على خاطرك….دخلي واجلسي هنا…وانا نخدم بالداخل…أغلقت الباب وأزحت الإزار الأسود السميك لتدلف الفتاة الى الداخل…وظلت جدتها قابعة على كرسي صغير بجناح البضائع المعروضة.

  التحقت بالفتاة …من أين سأبدأ؟…قلت بصوت مسموع: خالتي رقية …إذا سمعت الصراخ ما تخافي والو…كانت الفتاة منكمشة…لاطفتها وطمأنتها: لا تخافي …كلشي يكون بخير…نصرعك ونخرج منك الساكن…ولكن صبري شوية…أزيلي ملابسك…لا حياء في الدين…وصرعتها…كانت صرخاتها المخنوقة تصل إلى مسامع الجدة .انتهت الجلسة. صرع الجسد بالجسد…شربت كأسا…مسحت الفتاة أطرافها…وكانت تبدو كفنار مضيء خصلات شعر أسود سائبة وجسد يشع حياة…لبست ملابسها بهدوء وكذلك فعلت…وخرجنا إلى جدتها. أخرجت من كمها أوراقا مالية و بضعة دراهم. التقطت يدي قطعة من فئة درهم وقلت: لبياض فقط أخالتي رقية…الله يرحم والديك الشريف ويناولني بركاتك…الله يرضي عليك…وسألت الفتاة: كيف تحسي؟ أجابت :مزيان بزاف…

 وانصرفتا….        

بعدها اشتريت سبحة وأصبحت رفيقة لأصابع يدي، ولبست فوقية صفراء ووضعت طاقية بيضاء على راسي. وبدأت أتردد على المسجد…وتلك حكاية أخرى…

إلى متى سنظل هكذا؟ قلت….بعد سنوات كنت ألتقي نفس الوجوه تسكنها الهموم والبلادة والضياع….نصف مجنون بل ثلاثة أرباعه  يتحكم في مصير عقلاء…بل حمقى…أعطاب كثيرة تسكننا …تعشش فينا….تتقاطر على دماغي الآن وكأنها شريط مصور….ما أوسخنا لا أستثني أحد كما قال الشاعر.