“يد الحكاية ” مجموعة قصصية يكتبها لمنار اليوم في حلقات القاص والمبدع المغربي عبدالجليل لعميري ” الحلقة الرابعة”
موقع منار اليوم الاربعاء 10 مارس 2021 .
بساط الريح
كنت أسمع جدتي تغني: بساط الريح يا بو الجناحين،
مراكش فين وتونس فين؟ !
وتدندن وهي سعيدة في لحظة
صفاء. أقول لها: جدتي، ماذا يعني بساط الريح؟ !
تتكلم جدتي وكأنها تغني، تقول
كلاما كثيرا لا أذكر منه سوى: اسم حكاية السندباد….أسمع وأهز رأسي كالفاهم. …
وحين اختلي بنفسي، في غرفة أخي الكبير،
أعيد التفكير في كلام جدتي وصوتها الرخيم يقطر في أذني حكاياتها. …وأسأل نفسي:
هل يمكن أن يكون لي بساط يحملني عبر الهواء ويذهب بي إلى أماكن جميلة؟
– نعم يمكن ذلك. …
أثار الصوت انتباهي وخوفي.
بحثت عنه حولي، فلم أر أثرا لأي كائن ..
تحرك بساط صلاة قزحي
اللون قربي وحرك شعيراته قائلا: أتبحث عني؟! أنا صاحب الصوت. …
دهشت وكدت أهرب. …لكن البساط
تحرك في الهواء وانطلق في جولة قصيرة بالغرفة. غمرتني الفرحة وكدت أطير محلقا قربه
وأنا أرى كلمات جدتي تتحقق أمام عيني …نزل البساط وخاطبني :
– أنا بساطك
الطائر ….الى أين تريد الذهاب؟ !
– أريد الذهاب إلى أرض
الحلوى. …والسكاكر. .
– الحلوى والسكاكر؟! إذا أكلت منها الكثير قد تضر
بصحتك. ..
– لا أريد أكل الكثير وإنما أريد جلب كمية منها
لأهديها لأطفال محرومين منها. … وبعدها نسافر إلى أرض الملابس ونحمل منها
معنا ما يكفي لأطفال في حاجة لها. …ملابس دافئة تقيهم هذا البرد. …
– نعم هذا جميل سنجلب معنا الكثير من الحلوى
والملابس والكتب واللعب لأطفال حينا. ..
ركبت بساطي القزحي وغادرت
المكان. طرنا فوق الجنائن والأنهار والجبال. نزلنا بأرض الحلوى ثم أرض الملابس
والكتب واللعب. وحملنا منها الكثير حتى تقعر ظهر البساط. فقلت له: سامحني أيها
البساط لقد حمَلتك هموم جميع أطفال حينا. ابتسم لي وقال: لابأس من أجل سعادة
الأطفال تهون كل الصعاب.
ونحن نجتاز أرضا بها دخان كثيف
وأصوات فرقعة قوية سألت البساط: ماذا يقع في هذه الأرض؟ !
أجابني وفي صوته حزن عميق:
إنها الحرب. ..
قلت: و ما الحرب؟! قال: يصنعها الكبار ويعرفونها وأنتم
ضحيتها الأولى. …
التمست منه: هل يمكن أن توقفها
من أجل الصغار؟ !
تنهد و قال: دعنا نوصل الهدايا
أولا إلى أصدقائك الأطفال. …و لنعمل جميعا على إيقاف الحرب. …إننا نحتاج
للكثير من البسط لمحو الحرب و آثارها. …وزعنا
جميع الهدايا تلك الليلة ونام الأطفال فرحين في انتظار الآتي.
ونمت في حضن جدتي وهي تعيد علي حكاية بساط الريح
والسندباد وتغني: بساط الريح يا بو الجناحين مراكش فين وتونس فين؟ !
*النادلة
يسميها صديقي، ضاحكا،
بالمناضلة، ويجزم بأنها كذلك بالدليل القاطع: ” من تجرؤ على المشي في غابة من
الذكور الجائعة؟!”
فعلا هي وسط غابة من الذكور تربوا على تقاليد البلدة الصغيرة، وندرة النساء
في المقاهي، وصورة نمطية للمرأة “العورة “. في بداية عملها بالمقهى كانت
تنهي يومها منهكة، وحين تستسلم للنوم تهاجمها عيون وقحة حمراء وزرقاء وصفراء.
..وأيدي متسخة تحاول نزع ملابسها عنها. تقاوم بيديها الهجوم وتحمي جسدها،
وحين تحس بانهيار دفاعها تصرخ، لتجد أمها قريبة منها تمسح عرقها. تكرر الكابوس
كثيرا وتنقلت هي من مقهى إلى مقهى بحثا عن وضعية أفضل. لكن العيون والأيدي القذرة
ظلت تطاردها. …
وفي
آخر محطة لها بهذا المقهى بدأت تتأقلم مع الغابة. ..لأنها قضت مدة أطول فقد شرعت
في التعرف على نوعيات الزبناء، و عقلياتهم ومستواهم التعليمي و الإجتماعي. بدأت
تفهم نفسيا تهم و سلوكياتهم. … رواد مقهى القصبة مخلصون، ومعظمهم لهم أوقاتهم
الخاص، فهناك أصحاب الصباح، وهناك أصحاب
الزوال أو المساء. ..وضمنهم استاذها الذي درسها بالثانوية. في البداية كانت تخجل منه لأنها تتذكر قولته:
النجاح في الدراسة يحميكم من غسل أواني المقاهي. لكنها لاحظت أنه يعاملها باحترام
و يجزي لها البقشيش، بعيدا عن تحرشات البعض…كانت تراه دائما مشغولا بقراءة كتاب أو بالكتابة على الحاسوب.
وسألت نفسها: ماذا تفيد الأستاذ هذه القراءة وهو حاصل على عمل جيد؟
وفي ذلك الصباح البارد فاجأها بسؤاله: لماذا لا تجتازين امتحان
الباك حر؟
ارتبكت وتحججت بأعذار الوالدة المريضة والأب المتوفى والأخت القاسية.شجعها
و وعدها بأن يساعدها إلا إذا كانت تفكر في الزواج؟ أجابته بحزن: “ومن يتزوج
نادلة بمقهى تنهشها عيون الغرباء صباح مساء؟
“.
مرت سنوات، هي الآن ترتشف قهوة الصباح في طريقها إلى مقر عملها،
وتتذكر وجه ذلك الأستاذ الطيب الذي ساعدها على نيل الباك، مما ساعدها على متابعة
دراستها الجامعية والحصول على عمل: مدرسة فلسفة منذ سنة، وقد وعدت نفسها أن تبحث
عن استاذها لزيارته و شكره.
موت رومنسي!
في “قبالة البحر
“كان يجلس متخذا لنفسه موقعا مطلا على منظر أزرق ممتد. رواد المكان يثرثرون
في همومهم الخاصة، يتسرب بعضها إلى سمعه كلما ارتفعت أصواتهم. يرشف من قهوته
السوداء ويتأمل اللوحة الزرقاء المشرعة أبوابها أمامه…رقصة الموج وهو يلمع
تحت أشعة شمس يوليوز حياة نابضة بالجمال، رغم اختباء وجوه البؤس في دروب هذه
المدينة التي تغزوها البداوة من كل الاتجاهات. يقرأ اليوم كتابا عن تقنيات الكتابة
وخصوصا كتابة الرواية. هو منشغل بكتابة رواية يحكي فيها عن بلدته: تاريخها،
جنونها، بؤسها وثرواتها، عن كل شيء يخص هذه البلدة القديمة الغشيمة، فكيف سينجح في
ذلك؟ أليست الرواية إبنة المدينة!؟ فهل يمكن أن تكون هذه القرية الغارقة في
التهميش موضوعا مناسبا لروايته؟! أليس في أهلها كل ألوان السلوكيات البشرية وفي
أعلى درجاتها؟ المحتالون والنصابون والانتهازيون من أهل بلدته يستحقون أن يكونوا
أبطالا أو شخصيات على الأقل مهمة في هذه الرواية لكشف الوجه القبيح للفساد. و من
أهل بلدته: الطيبون والمخلصون والملتزمون الذين يستحقون رسم الوجه الإيجابي للحياة. …
يرشف من
قهوته الطليان، ويدخن سيجارة أمريكية. الغرب يفرض نفسه عليك في حياتك اليومية، بل
حتى في جلوسك بمقهى للتمتع برؤية البحر الأطلسي في لحظة استجمام مهربة. لا يساير
إيقاع المصطافين و المصطافات، فهو عازف عن السباحة ويكتفي بسباحة ذهنية. يتمتع
بالمشهد ويتذكر ما قاله الكوتش في فيلم “المؤلف” الاسباني: إسمع، أنظر،
عش…ثم أكتب. لمن سيكتب؟ فهؤلاء قوم غرقوا في المتعة المادية، والشعب لا يقرأ.
أمة إقرأ لا تقرأ. على الشاطئ مكتبة سمت نفسها: شاطئية، تعرض كتبا للقراءة وتنظم
لقاءات ثقافية. الفكرة جميلة، لكن أين هو القارئ؟! ولماذا نفس الضيوف ونفس الوجوه؟ !
يحس بعطش فظيع، يشرب من
كأس الماء أمامه، لكن العطش يزداد.
يحس بعرق
يتصبب منه، وببرودة غريبة. …يتنفس بصعوبة، يلقي بجسده المتعب إلى الوراء،
يتنفس بصعوبة، ويسلم جسده لظهر الكرسي. …
يمر وقت
طويل، تغطي أسدال الليل الوجه الأزرق للبحر، ينسحب رواد مقهى قبالة البحر، ويظل
النادل العجوز ينتظر خروجه، لكن بدون جدوى. يقترب منه ويطلب الحساب. الرجل الجاثم
أمام النادل لا يستجيب، يقترب منه أكثر: أسيدي سنغلق المقهى. ..لا جواب، يقترب
أكثر وينظر إلى الرجل المسجى فوق الكرسي، يستشعر خطرا، ينادي على زميله الآخر: هذا في غيبوبة!
يحضر
زميله الآخر ويكتشفان أن الزبون قد مات، وأمامه ورقة كتب عليها: مشروع قصة تحت
عنوان “قبالة البحر: ولادة جديدة “!….