كيف وصلنا إلى هذا الحضيض ليحكمنا سياسيون سذج؟
بقلم ع.العزيز كوكاس..
“السؤال ليس هل سنصبح متطرفين أم لا، السؤال هو أي نوع من المتطرفين سوف نصبح، إن الأمة والعالم في أمس الحاجة لمتطرفين مبدعين” مارتن لوثر كينغ.
ما الذي يجعل القادة والزعماء الذين يسوسوننا اليوم، يفتقدون لعمق الفكر وبعد النظر الاستراتيجي؟ يخسرون بسرعة البرق صمودهم أمام الزمن ويعبروننا مثل فواصل صغيرة بلا أثر، كيف فرغ العالم من الزعماء الكبار الذين وشموا تاريخ البشرية هنا وهناك؟ كيف فرغ العالم من حولنا من هؤلاء القادة السياسيين الذين كانوا يخلقون أساطير دافئة لشعوبهم؟ هل هو الفراغ الفكري في عالم أصبح كل شيء فيه معلبا ومسطحا؟ أين جيل دوغول وتشرتشل ولينين وغيفارا وماو وهوشي مينه ونهرو وغاندي وجمال عبد الناصر والحسن الثاني؟ أين سياسيونا اليوم من عمق علال الفاسي واستراتيجية بوعبيد وصمود عبد الله إبراهيم وحكمة بوستة واندفاع بن بركة ودهاء الفقيه البصري وصدق بنسعيد آيت يدر ووطنية بوستة وعناد علي يعتة… الذين صنعوا أحلام أجيال متتالية ومنهم نستمد بعضا من عمقنا الفكري وخيالنا الإبداعي وصوفيتنا الأولى..؟
حين سئل كونفوشيوس عن أول شيء سيقوم به إذا ما وصل إلى الحكم، أجاب ببساطة: “سأغيّر اللغة”، وأمام استغراب محاوريه، أضاف: “لأنك حين تغير اللغة ستغير العالم”..
وسيبقى شرح كونفوشيوس الإضافي، مستغلقا عليكم كيف يمكن أن نغير العالم بمجرد تغيير اللغة.. لن أعود بكم إلى ما وصف به هايدغر اللغة باعتبارها مأوى للكائن البشري، أو كما اعتبرها فوكو مؤسسة كباقي مؤسسات الأسرة، المسجد، السجن، لنطرح كل هذا جانبا وتعالوا لنمارس لعبة سقراطية شهيرةً اسمها: تناسل الأسئلة أو توليدها من ذات المتلقي، إلا إذا كنتم سوفسطائيين قادرين على تبرير الشيء ونقيضه!
ـ ما مشكلة العالم اليوم؟
ستجيبون وفق الاحتمالات التالية:
1ـ لم يعد لدينا قادة سياسيون نثق بكفاءتهم.. حيث أصبح لدينا سياسيون تقنيون يفهمون في الأرقام الباردة أكثر مما يفهمون في مشاعر من يسوسونهم. لذلك لا نصدق وعودهم التي يطلقونها حتى بدون سبب أحيانا.. إنهم يكذبون ويكذبون ويكذبون.
2- افتقدنا حماسة الزعماء الكبار الرؤيويين الذين كان بإمكانهم أن يهدهدوننا ونتحول إلى حطب لقاطراتهم، لا شيء في خطابات السياسيين اليوم يخلق أوهاماً كبرى أو أساطير تجعلنا قادرين على الثقة العمياء في سياساتهم وبرامجهم ووعودهم..
3- سياسيو اليوم أضحوا فارغين من المعنى، تقنوقراطيون يحسبون العالم كلعبة أرقام جافة، سياسيون سذج استخدموا مكرهم وعضلاتهم في الاستحواذ على التنظيمات الحزبية والمدنية وأحاطوا نفسهم بحواريين ينعشون طمعهم بأكاذيب الزعماء، اقتصاديون تسيدوا بالمال في تنظيماتهم الحزبية وفرضوا أسماءهم في الإعلام وجلبوا الرأي العام إليهم.. وهم بلا أثر ولا حس ولا وقع.. خطاباتهم بلا رواء، وأحيانا حين يريدون الاقتراب من لغتنا يصبحون مثل بهلوانيين يثيرون الشفقة بدل السخرية…
ـ طيب، كل ما قلتموه مقبول، كي لا أقول معقولا، ولكن هل كانت السياسة، غير هذا، التسّيد بالمال والجاه والسلطة… عبر التاريخ؟
وأتوقع أنكم ستردون دفعة واحدة:
-لا، كان لدينا سياسيون متسيّدون، أمثال شارل ديغول مهندس الجمهورية الخامسة وإلى جانبه مثقفون كبار أمثال جون بول سارتر الذي كان شديد الانتقاد له، وحتى أكبر معارضيه، كان الجنرال الوطني يصم آذانه عن توصيات محيطه بسجن الفيلسوف الوجودي، فيرد عليهم بنرفزة: “لا يمكن أن نسجن فولتير فرنسا اليوم”، وأن ديغول الذي كان محط سخرية دائمة من قبل جريدة “لو كنار أونشيني” هو ذاته الذي أجاب حين سئل عن معنى الديكتاتورية بالنسبة إليه، فقال: “هي فرنسا بدون لو كنار أونشيني”.. وكان لدينا بطل حرب اسمه وينستون تشرشل، لما اتهمه صحافي إنجليزي وهو الأسطورة الخارجة من قلب الحرب العالمية الثانية، استدعاه إلى حفل خاص، ووشوش له في أذنه: “أشكرك بشكل خاص، لأنك حررت ألسن البريطانيين، بفضل انتقاداتك سأعرف نواقصي في ممارستي السياسية”، وستستدلون بروزفيلت الذي لاحظ بأن لا جريدة تنتقده فطلب اجتماعا مستعجلا لكبار مستشاريه، وحين طرح عليهم السؤال، حول غياب أي نقد لسياسته الجديدة إبان ما عرف بالأزمة العالمية التي انطلقت ذات خميس أسود من وول ستريت، أجابهم بحزم: “غياب انتقاد وسائل الإعلام، معناه أن هناك شيئا على غير ما يرام، فالنقد دليل صحة وعافية في الجسد الاجتماعي”..
بل ستذهبون إلى أبعد من ذلك لتستدلوا حتى بنماذج السياسيين الذي لا يروقونكم من المعارضين والثوريين الانقلابيين أمثال هتلر الاستبدادي الذي كان ذا ثقافة عالية، والجماعات الثورية التي كانت تقلق بال كل العالم الذي كنتم تطمئنون إليه من لينين وتروتسكي في الجماعة البلشفية بروسيا إلى إرنستو تشي غيفارا وماوتسي تونغ وهو شي مينه… وسيكون أقرب إليكم الاستدلال بزعماء سياسيين مغاربة كانوا أقرب إلى النبوءة من علال الفاسي إلى عبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم ومحمد بوستة وبنسعيد آيت يدر وعبد الرحمان اليوسفي والقائمة طويلة…
ولكن يبقى السؤال قائما:
-لماذا كان لدينا سياسيون كبار حكموا العالم سواء كانوا ديمقراطيين أو نازيين أو ثوريين أو متسلطين حتى؟ على خلاف اليوم الذي تساوت فيه خطابات كل السياسيين؟ هل هي التقنية المعممة؟ هل هو غياب الحرب التي صنعت دوغول وتشرشل وروزفلت وحتى هتلر وتشي غيفارا وماوتسي تونغ وهوشي مينه كأبطال قوميين أسطوريين، وصنعت أمثالهم في العالم الثالث إبان مرحلة الاحتلال الامبريالي عبد الناصر بمصر، محمد الخامس بالمغرب، ياسر عرفات بفلسطين، بورقيبة بتونس، باتريس لومومبا بالكونغو، ومانديلا بجنوب إفريقيا؟ وبالتالي غياب الوازع الوطني والقومي أو الأممي الذي يخفي التناقضات الداخلية ويرصّف صفوف الدولة الوطنية في مواجهتها لأعدائها الخارجيين؟
ستقولون:
-لا، فنتنياهو لن يصبح زعيما بسبب الحرب على غزة اليوم، وحرب أمريكا لم تخلق من بوش الابن بطلا في حرب ثعلب الصحراء بالعراق، كما أن توني بلير لم يصبح تشرتشل بعد خوضه ذات الحرب؟ وخارج فرانسوا ميتران لا رئيس فرنسي خلق الإجماع حوله في كل الحروب التي خاضتها فرنسا خارج أراضيها، في مستعمراتها السابقة، ولم تصنع الحرب ضد الإرهاب أي قائد أو زعيم أسطورة في ذهن الشعب… بل إن كل الرؤساء وزعماء العالم الذين جاؤوا بعدهم لا نكاد نتذكر أسماءهم، كأنهم سحابة صيف لا غيث ولا مطر، لم يشموا ذاكرة الأمة التي ساسوها، حتى لولايات متتالية…
-أين الخلل إذن.. ؟
-ستقولون بأن السياسة ذاتها تحولت وقدم إليها وافدون جدد بلا خلفية ولا قضية، أو أنها أصبحت بلا حارس وبلا بواب وكل من هب يدب فيها دون حاجة إلى تكوين أو تضحيات أو نضال أو تدرج تنظيمي، يبرزون مثل فقاعات الصابون ثم سرعان ما ينطفئون..
وأعتقد أن الخلل ليس في السياسة، بل في الفكر المصاحب للسياسة، أي العقل المغذي للقادة السياسيين الذين لا ينطلقون من فراغ، ستقولون كيف؟
لنعد قليلا إلى الوراء، ونتتبع مسار الأبطال الذين وشموا التاريخ الإنساني، كانوا عسكريين أو قادة سياسيين أو معارضين وازنين، سنجد أن ألكسندر الأكبر كان تلميذا لأرسطو، والخليفة العباسي المأمون كان هو نفسه مفكراً لذلك انتصر للمعتزلة وحتى مع ما خلفهُ كمحنة ابن حنبل، كان سببا في حركة النهضة الفكرية الكبرى، مع تشجيعه لترجمة الفكر اليوناني، وهتلر الديكتاتور كان قارئا جيدا لنيتشه ومنصتا بأذن عاشقة لفاغنر ووراءه مفكر من حجم هايدغر، وتشي غيفارا كان يصنع الشعر في قلب الثورة، ولينين وتروتسكي زعماء الثورة البلشفية، كانا معا قارئين حالمين، هضما هيجل وفيورباخ وماركس، وهضما روايات دوستويفسكي وتولستوي وغوغول وصادقا ماكسيم غوركي قبل أن تختلف بهما السبل، وحتى وهو منفي في قلب أمريكا اللاتينية ظل تروتسكي الحالم بالشيوعية، عاشقا للشعر المنبعث من هذه التشكيلية المكسيكية فريدا كاهلو…
كان الحسن الثاني قارئا جيدا ويمتاز بذكاء فكري، وكان إلى جانبه الكبار من علال الفاسي والمختار السوسي وبلحسن الوزاني والمهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم… وكل هؤلاء كانوا شعراء ومفكرين ومنظرين بتكوين عال وفكر ثاقب وهموم وطنية لا تخطئها العين، كل واحد منهم موسوعة متنقلة، خدموا الفكر والسياسة معا، ولأنهم أيضا كانوا قد تتلمذوا على يد الكبار من أمثال أبي شعيب الدكالي ومحمد بلعربي العلوي وشكيب أرسلان وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، إضافة إلى أساطين الفكر الغربي..
فحين يغيب الفكر عن عقل السياسي، يسقط في السطحية، لأنه يصبح مثل سفينة تائهة في بحر الظلمات، لا منارات فكرية ترشدها، لقد انطفأ الفكر المشع الذي كان يغذي السياسة بعمقها ويمنحها كينونة حية تمنحنا طاقة أسطورية على البدل والعطاء دون أن نأخذ الكثير باسم العدالة والديمقراطية والتنمية والوطن والحب..