أخر الأخبار
الرئيسية » المنار الثقافي » “يد الحكاية ” مجموعة قصصية يكتبها لمنار اليوم في حلقات القاص والمبدع المغربي عبدالجليل لعميري ” الحلقةالسادسة “

“يد الحكاية ” مجموعة قصصية يكتبها لمنار اليوم في حلقات القاص والمبدع المغربي عبدالجليل لعميري ” الحلقةالسادسة “

 

 
موقع منار اليوم 21 مارس 2021
*الفصل الرابع:
                           السبابة.
*(أنا : للإشارة و التحديد، وللإغارة والتهديد ،و للتشهيد و التسديد ).
 
*غير مرغوب فيه
في مواجهة القطار كان يضع جسده النحيل حاجزا، بملامحه القمحية ولحيته الخفيفة، ورطنته لكلمة الله ..انتبه اليه المسافرون الذين تعج بهم محطة القطار…
السحنات الشقراء بدى عليها الذعر، في حين لم يعرف ركاب القطار سبب تأخره عن الانطلاق من محطة روما المشهود لها بدقة مواعيد قطاراتها.
وراج الكلام المألوف  والسهل استهلاكه:  “إرهابي إسلامي يحاول تفجير القطار؟ “ساد اللغط والصراخ بين الركاب و هم من جنسيات مختلفة أوربية وغير أوربية وضمنهم إيطاليون… حاول  بعضهم النزول هربا من الآتي، لكن أبواب القطار ونوافذه كانت محكمة الإغلاق. لجأ البعض الى إطلاق انذارات متكررة. مما زاد حجم الفوضى، ونجح البعض في فتح نوافذ و تسلل هاربا. فتدخل طاقم القيادة ليخبر الركاب “ليس هناك خطر …لا تتسببوا في الفوضى. سينطلق القطار بعد دقائق ..رجاء الهدوء.”. واستمر الناس في غليانهم داخل القطار وحوله حيث كان الرجل يصرخ بالعربية والايطالية : “انزلوا لي ابنتي من القطار ….أنزلوها وإلا فإني سألقي بنفسي أمامه. لن يتحرك هذا القطار قبل ان تنزل ابنتي؟”. وفي يده كان يحمل الرجل شيئا ما ويهدد به كل من اقترب منه…
اقتربت منه شرطية بهدوء وطلبت منه بأدب: ما اسم ابنتك؟ صرخ الرجل: فاطمة الزهراء الحالم….
كلمت الشرطية جهة ما بالراديو. وداخل القطار قال مساعد السائق: المرجو من فاطمة الزهراء الحالم النزول من القطار للقاء شرطية”.
تقدمت نحو المساعد شابة في مقتبل العمر، تبدو من لباسها وتسريحة شعرها “الأكرد”  مراهقة في الخامسة او السادسة عشرة من عمرها، وقالت له: لن أنزل، إن أبي يريد منعي من السفر للقاء صديقتي بدجينوفا.
حضر سائق القطار وطلب من فاطمة النزول: أرجوك حلي مشكلك مع والدك و لا تعطلي مصالح الناس.
صرخت فاطمة في وجهه: ليس من حقكم إرغامي على النزول، فأنا مواطنة كاملة الحقوق، و أريد حضور البوليس فورا …فقام طاقم القطار بالاتصالات الضرورية، و فتح الباب لتصعد الشرطية الى القطار، في حين كان جمع غفير من الشرطة  يحاصرون الأب أمام القطار، بدون ان يتجرأ احد على الاقتراب  منه.
تفاوضت الشرطية مع الشابة التي أصرت على إحضار محام لأن والدها يهددها بالعنف، ويمنعها من الخروج ويعنفها لفظيا ..صرخت : أريد حماية الدولة..
كان الاب المنهك، بفعل الصراخ وطول الوقوف، ينتظر جوابا، ويتذكر كيف كان والده يفرض عليه كل شيء، ويضربه ضربا مبرحا كلما اخطآ خطأ صغيرا، مبررا ذلك بقوله “العصا من الجنة تردك راجل”. و هو يريد ان يجعل من بنته امرأة محترمة بعيدا عن ميوعة النصارى و”ضسارتهم”، و لكنها اصيبت بعدواهم و أصبحت تتمرد عليه”.
وتهاوى جسده ليرتطم بقضبان الحديد الصلبة، لتسقط من يده حقيبة جلدية تدحرجت منها قنينة ربو، وآلة قياس السكري….
حلم مملح ….
        كنت أصعد الدرجات العشر مغمض العينيين مقيد القدمين و اليدين: واحد ،اثنان،…تسعة ،عشرة .
     التنفس منتظم. يفتح باب، أفتح عيني لأجد نفسي داخل ثلاجة…الجو منعش. أنغام  شعبية تتعالى، إنه صوت الفنان  (الرويشة) ووتاره العملاق يسيل أنغاما.
    الضوء يعم المكان، صورة كبيرة معلقة على جدار الثلاجة العملاقة: رجل أصلع  نحيف أميل إلى السمرة يجلس القرفصاء ويضع يديه على ركبتيه ومن شفتيه تطل ابتسامة دافئة، إنه غاندي…هي نفس الصورة التي رأيتها في الكتاب المدرسي ذات فصل…وأسفل الصورة كتب بخط  مفحم :
    (لم يكن عبثاً أن المهاتما غاندي اختار الملح ليكون مدخلاً إلى استقلال الهند عن بريطانيا).
   وعلى الجانب الأخر ثبتت صورة لجورج واشنطن وهو يقف قرب حصانه الأبيض مرتديا لباسه العسكري الأنيق. يقال أيضا انه طالب بريطانيا بالحصول على حق الأمريكيين من الملح وخاض ضدهم حربا شعبية.
      الجو داخل الثلاجة منعش روائح الخضر والتفاح منتشرة. أمد يدي إلى تفاحة خضراء. يقال انه أفضل من الأحمر(هذا قد يعجب بعض الجمهور الرياضي). زاوية بها بقدونس طري تغري بالنوم. استلقيت وتمددت وتسلق نظري المحيط متوقفا عند الصورتين، غمغمت (عجيب أن يجتمع زعيمان على أهمية الملح ضد بريطانيا).وغفوت.
   رأيت نفسي في سوق تفسير الأحلام : غمغمت (علي أن أتخير حلما مناسبا لعله يفك كربي) . وتجولت في  السوق  لتستوقفني  خيمة  سوداء عظيمة  مفتوحة على ساحة السوق، كانت مثل رواق عرضت داخله أنواع من الملح: الأبيض، الأسود، الأحمر، المائل الى الصفرة….ولافتات كبيرة الحجم كتبت عليها بعض العبارات :
(مملح السمك أخبار سارة). (الملح زهد في الدنيا وخير و نعمة). ( من أكل الخبز بالملح فقد اقتنع من الدنيا بشيء يسير). ( الملح هو في المنام مال بلا تعب). ( إذا حلمت أنك ملحت اللحم فهذا ينبئ بأنك ستنوء بثقل الديون والرهانات). ( من رأى: أن ملح الناس قد فسد، فإن الطاعون يحل بذلك المكان، أو يحل فيه ظلم أو قحط).
      وأنا أنسحب من الخيمة انزعجت لمنظر دودات سوداء تتسلل من أسفل أكوام الملح….فخرجت كالهارب..
    أفقت منزعجا  لم أجد أثرا للثلاجة ولا للبقدونس الناعم ولا لأكوام الملح الفاسد … وجدت حاسوبي قربي تصدح منه موسيقى شعبية، وشاشته تحتلها صورة المهاتما غاندي مقرفصا  وهو يخيط الملابس. لعل  رتق جراح الملابس ينسي جراح النفس.
*طيران العدو…
كان الكابران يوقف دابته الصهباء بالجناح المخصص للدواب بالسوق الأسبوعي(مربط البهائم)، ولحظة إزالته للبردعة عن ظهر البهيمة، ذوى أزيز قوي في سماء السوق، مغطيا كل أصوات الهرج والمرج المنبعثة من الأرض.
انقبضت نفس الكابران …إنه يعرف هذا الصوت جيدا.. صوت طائرة …ألقى بجسده المترهل- الذي كان ذات يوم رياضيا – المتعب بالسنين أرضا، وزحف على مرفقيه و ركبتيه نحو البردعة التي كان قد وضعها قرب جدار المربط، أخفى بعض جسده تحتها..
(طائرة العدو…طائرة العدو…انسحاب فوري…اختباء فوري…) نداء رن في مسمعه، فجرى بكل قوة جسده الرياضي الغض، والقى بنفسه في خندق قريب، وأخفى نفسه تحت جذع شجرة ..كان القصف عنيفا من طرف طيران العدو الذي استمر يمشط المكان ذهابا وإيابا مشعلا النيران في النبات و الحجر والبشر…
طيران العدو…طيران العدو…اختباء فوري….عبارات ظلت ترن في أذنيه طيلة عقود لاحقة بعيدا عن المعركة…والكابران يلهث تحت البردعة في وضعية نعامة تخفى رأسها في الرمال ،سمع صوتا :(الرجوع لله الكابران …)ميزه بسهولة العارف إنه صوت (المقدم) اسوأ رجل بالدوار…
– هل تخاف الطائرة؟  قال المقدم متشفيا، “كنت أخيط ثقبا في البردعة ” قال الكابران محاولا الانفلات من مأزقه.
وتحركا نحو جناح الخضر و الفواكه داخل السوق. وفجأة صرخ لمقدم: طيارة، طيارة. فهرب الكابران نحو شاحنة ليختبئ تحتها. ضحك لمقدم، بل قهقه حتى كاد يغمى عليه ونشر الخبر في السوق و الدوار…
أول من فرح للخبر بالدوار هو المعلم علي الخصم اللدود للكبران  في لعبة الضامة. فهو منذ سنوات يعاني من انتصارات الكابران، ويبحث عن نقطة ضعف تفقده تركيزه بدون جدوى .
ها هو اليوم يملك سلاحا جديدا سيقضي به على الكابران. وفعلا بدأ العسكري يعاني من عبارة(طيران العدو…طيارة …طيارة) حين يرددها الاطفال المشاغبون أو جمهور الضامة. فقد اتفق المعلم علي مع بعض الجلساء ان يصرخوا بالعبارة القاتلة كلما غمز لهم، لتشتيت انتباه الكابران فيهزمه….
و فعلا توالت انتصارات المعلم علي على الكابران، فكلما نجح الكابران في نقلاته على صدر الضامة، كلما صرخ أحد الجلساء بعبارة: “طيارة ” فينزعج الكابران و يهرب من المكان لتحتسب الجولة للمعلم علي.
بدأ الكابران يعيش حالة اكتأب عنيفة بسبب ضغط فضيع تتسبب فيه عبارة “طيارة”، التي يسمعها في طرق الدوار، وفي السوق، وحتى داخل بيته، حين يقف بعض الأطفال المشاغبين امام الباب او خلف الدار ويصرخون “الطيارة…الطيارة….”
قرر الكابران الاعتكاف داخل بيته، مستفيدا من ثقل في سمعه بدأ يغزو أذنيه، ممتنعا عن استقبال اي زائر، وقد شدد على زوجته بعدم السماح لأي مخلوق كان بالدخول عليه، وإخبار الناس بأنه سافر لزيارة ابنته بالمدينة…
حاول الكثير من رجال الدوار زيارته لإخراجه من العزلة، ووبخوا – كثيرا – الاطفال المشاغبين.. بل هددوهم بأقصى العقوبات ان عادوا الى الصراخ بتلك العبارة المشؤومة. وعاتبوا المعلم علي على ما يفعله لهزم الكابران، وتحدوه ان تنظم مواجهة فردية رأسا لرأس مع الكابران…لكن الامر لم ينجح، وظل العسكري مختفيا بعيدا عن “طيران العدو” الى أن سمع الناس ذات صبيحة صيفية صراخ زوجته ونحيبها، فعلموا برحيله الى عالم قد يخلو من طيران العدو…
إرهابي في باريس
“بلاد الجن و الملائكة” عبارة قالها طه حسين، و منذ ان قرأها صاحبنا، واطلع على سيرته…قرر أن يسافر الى بلاد الأنوار.
هو الان موظف محترم، ومولع بالكتابة، نشر عدة دراسات ونصوص بالجرائد والمجلات، وديوان شعر.
خبت فكرة السفر الى باريس مع الانغماس في أجواء العمل و الالتزامات الأسرية. لكن خلال الفترة الأخيرة وضع خطة للزيارة:
أولا الادخار لتوفير ما يلزم الرحلة من مال، وثانيا القراءة المنظمة حول باريس، والاطلاع على أجود دلائل السياحة خصوصا عبر الشبكة العنكبوتية. نمت فكرة الزيارة وترسخت،
و احس أنه جاهز للسفر.
* **********
أول ما فكر فيه ، و هو يحزم حقيبته، انه سيكتب عن هذه التجربة اي الرحلة، فقد أصبح أدب الرحلة مزدهرا في هذه الفترة. ولكي يكتب بشكل جيد قرر الا يبرح باريس خلال مدة رحلة كاملة…باريس مدينة تحتاج زيارتها اكثر من يوم أو يومين…لذلك سيخصص لها اسبوعين كاملين مع وضع روزنامة لكل يوم وتدوين وقائعه الاساسية.
“لكي تكتب عليك ان تعيش الحياة” قال لنفسه، و هو محظوظ ليحقق ذلك فصديقه المقيم بنواحي باريس سيوفر له الكثير من المساعدة وسيكون دليله المفيد. وعليه ان ينظر و يتأمل كثيرا الى البشر و الأشياء و الأماكن، كما عليه ان يحسن الاستماع و يلتقط المهم من الأخبار والأحداث، هكذا فكر وعلى هذا عزم.
********************
مع وصوله الى المطار الدولي وجد صديقه في انتظاره، و بدأت الرحلة باكتحال عينيه بمناظر الحضارة الفرنسية في هذه العاصمة العالمية ونواحيها، كان اليوم الأول استراحة ببيت صديقه. و في اليوم الثاني توجها الى قلب باريس لزيارة متحف اللوفر الذ ي قرأ عنه الكثير. أوصله صديقه، وانسحب لقضاء بعض أغراضه، كان صف الزوار طويلا يعج بأصناف السياح من كل دول العالم بسحنات مختلفة و رطنات متنوعة. بعد دخوله مع العشرات وقف منبهرا أمام المعروضات الجميلة وصرخ في أعماقه” ما هذا الجمال …” ثم افلت منه تعبير “الله اكبر”، فحدجته عيون كثيرة ..حينها سمع انفجارا مهولا، ثم تحول المتحف الى بقايا رماد و قتل في الحادث عشرات الضحايا ….
تناقلت الاخبار الحدث، و تحدثت الصحافة عن عملية إرهابية دمرت أعرق متحف عالمي “اللوفر” و أودت بحياة عشرات الأرواح البريئة …الغريب ان التحقيقات أشارت الى امكانية تورط مغربي وجدت حقيبته بين الركام…
*الإسكافي
1/هو الآن سيخرج من مزود خبرته ما تعلمه ايام الشباب من تلك الحرفة العجيبة. قال له أبوه ذات صباح خريفي بارد: “هذه الحرفة يا ولدي هي التي أطعمتكم  وكستكم و حمتكم من التشرد و الجوع. ولكنها تجعلك تنظر دائما إلى الأسفل،إلى اقدام البشر لا لوجوههم ..”.
2/ أنا الآن أذكر نصف ما قاله أبي: ” هذه الحرفة يا ولدي هي التي أطعمتكم  وكستكم و حمتكم من التشرد و الجوع”، أما النصف الثاني فلا يهمني …فوجوه البشر لا قيمة لها عندي إنهم جحيمي، وجوه النعال أرحم …
3/بعد ان نشر ذلك الكتاب الذي سماه البعض “الكتاب الملعون”، انهارت كل السبل أمامه، وضاقت به الارض.. جردوه من عمله كموظف في التعليم بحجة أنه أصبح خطرا على الناشئة، حرموه من اي تعويض رغم أنه عمل لأكثر من عشر سنوات، وصودر الكتاب   وأغلقت كل المجلات و الجرائد في وجهه أبوابها. أصبح ممنوعا من اللقاءات والنشر و العمل.
4/بعد طردي من العمل و محاصرتي في الإعلام و النشر، عدت الى حرفة أبي تحت شعار (حرفة بوك ليغلبوك)، و في نفس دكانه الصغير الذي ظل مغلقا منذ وفاته لبضع سنوات ( وكنت أدفع اجر كرائه)، أصبحت أنظر للأسفل بعد عجزي عن دفع كراء مسكني ودكاني . لقد وقتني الحرفة من الجوع و التشرد مؤقتا في انتظار حصار جديد…
5/صديقه القديم كاتب “محترم” لأنه يعرف من أين يأكل الكتف، اقترح عليه ان يترجم بعض الكتب و المقالات، لأنه يعرف عمق تمكنه من اللغات: الانجليزية و الفرنسية و العربية. و لكنه حذره من استعمال اسمه المحظور….
6/صديقي الموظف الرسمي يخاف على اسمه من لعنتي، هو يعزني لصداقة قديمة و خدمات سابقة، وأنا أقدر له مساعدته لي في محنتي من وراء حجاب في وقت عزت فيه مساعدات الآخرين الذين تساقطوا أمام الحصار.. لذلك اقترح علي ان أترجم مقالات وروايات باسم مستعار…لعله خجل من ان يقترح علي اسمه، ففاجأته: “لماذا لا أترجم باسمك؟ ” احمر وجهه و قال: “انت تعرف مستواي في اللغات الاجنبية..” قلت : “والاخرون لا يعرفون …سأترجم باسمك على ان تناولني نصيبي فيفتي فيفتي …اوكي” فهز رأسه في خجل.
7/أصبح الدكان مسكنه و مقر عمله، عندما تمر أمامه تراه دائما يحمل كتابا او يسود أوراقا على مائدة صغيرة فوقها ركام من الكتب.. عيون تراقبه و الناس يتساءلون “كيف يعيش هذا الرجل و لا أحد يصلح حذاء عنده ؟”
8/صديقي المثقف الرسمي قدم لي خدمة عظيمة، فقد احترم الاتفاق المبرم بيننا، و ظل يوصل لي نصيبي وزيادة.. بل لقد فاز بجائزة في الترجمة، وجائزة في الرواية فاكترى لي بيتا في مدينة بعيدة، لأنه ترقى في المشهد السياسي و الثقافي و أصبح في ديوان وزير كبير تدخل لتخفيف الحصار عني بشرط أن أتوقف عن مشاغبة الدولة وكبارها…
لهذا أنا الآن – تلبية لشرطه- أكتب رواية “الاسكافي” لأفضح فيها كل ما أعرفه …و ليكن ما يكون…
                                        الإرث  المر

كنت أزور المكتبة الوحيدة بشارع “البؤساء “..وحيدة بين حوانيت الألبسة الجاهزة والأحذية “و المحلبات ” ومطاعم الأكلات الخفيفة والبيتزا!  فيها اصطاد طرائدي من الكتب الممتعة والمفيدة. فأنا إبن الجيل الورقي رغم انتفاعي بالكتاب الإلكتروني، لأنني أحس بمتعة خاصة و أنا أعانق الأوراق وأتسرب بين سطورها لبناء المعنى واكتشاف كنه العبارات و أفكار الكاتب.
داخل المكتبة وأنا أتصفح رواية ” زوربا اليوناني” في نسختها الإنجليزية، سألت راعي المكتبة عن النسخة العربية، إلا أنه اعتذر عن عدم وجودها، ووعدني بطلبها في القريب العاجل. لحظتها دخلت امرأة نحيفة، ترتدي جلابية صفراء، وتغطي رأسها ب”درة “بيضاء، تنتعل قبقابا أسود متقادما. وشوشت لصاحب المكتبة، فأجابها بصوت مسموع :
–  والو ألالة. ما تباعت حتى نسخة لحد الآن.
ظلت ملامح المرأة محايدة، وتحركت نحو رف من رفوف المكتبة ثم توقفت أمام كتاب ونظرت بإمعان إلى نسخه وكأنها تعددها، ثم قالت متنهدة : ” الرجا في الله. ..كلفو هذا الكتاب دم جوفو. و ما ربح منو والو”. ثم انصرفت بدون أن تنتظر أي رد فعل من صاحب المكتبة.
نظر إلي وقال كالمعتذر:  زوجها توفي منذ بضعة شهور. قبل وفاته بمدة قصيرة صدر له هذا الكتاب، لكن الموت أدركه مع الأسف، فلم يتمتع بفرحة نشر بكورته. استدان مالا لنشره على حسابه الخاص، ألف نسخة، وزوجته تحاول توزيعها  على بعض المكتبات لبيعها. لم يترك لها غير هذا الإرث المر. وأنت تعرف يا أستاذ أزمة القراءة.
صدمت، تخيلتني انا هو ذلك المرحوم. أين الأصدقاء؟ والشلل التي كانت تصفق له وتشجعه على النشر والإبداع؟ ! أليست هناك جهة تفكر في تكريم هذا المبدع وإنقاذ كتابه وأرملته؟ !
كان صاحب المكتبة يتابع كلامه وأنا غارق في مونولوجي، لم أعد أسمعه.  فكرت أن أشتري تلك النسخ. ولكن أنا نفسي شبه مفلس.كتابي بيعت منه مئات النسخ ولم أستفد إلا من اليسير منها. أنا أكتب منذ سنوات ولكن ذلك لا يضمن لي دخلا قارا لمواجهة إكراهات الحياة. أبرر لنفسي بأن المعنويات أهم. ولكن بماذا سيفيد هذا الإرث الحافي زوجتي وأولادي؟ !
كبوة إحساس انتابتني فجعلت من تلك المكتبة زنزانة، عملت على الهروب منها فورا إلى مكان بعيد قبالة البحر، حيث وقفت أتأمل تلاطم الأمواج وعناقها لصخور الساحل. فكرت:   – منذ متى ظلت هذه العلاقة الصدامية بين الأمواج وصخور الساحل! ؟؟
لم أفكر في  جواب. … ولكني فكرت في أن الكتابة موج وأن الحياة صخور..
 
                                           *الخبز الحار
إنه ليس حماما تركيا و لا أمريكيا ولا حتى حمام  (زوشينكو)*. إنه حمام مغربي. تكون نيتك هي النظافة، والتي تعلمنا أنها من الإيمان!  لكن حين تجد نفسك داخل هذا  الحمام تصدم: هو أقرب إلى  مستنقع للأوساخ والقاذورات (مع تحسن نسبي في العشر سنوات الأخيرة ). هكذا عليك أن تتعلم ثقافة جديدة: الحمام مكان لإزالة الأوساخ، لذلك هو فضاء الأوساخ. ولا بأس أن تسمع وترى أشخاصا يخرجون من أفواههم القذرة وأنوفهم العفنة بقايا أجساد تفوح منها  روائح نتنة. لا تبحث عن  النظافة في حمامنا الوسخ.
لكن أهم ما فيه، إن كانت لك دراهم زائدة، هو “الكسال”، هذا الكائن البرمائي الذي يتكلف بحك جلدك و طرد أوساخ جسدك، مع “تكسيلة “لا تخلو من مخاطرة. فإن كان بارعا أمتعك ورمم عظامك. و إن كان متطفلا على الحرفة كسر عظامك واورثك عاهة مستدامة.العجيب أن  (الكسال )البارع منهم تصبح له منهجية في حك الجلود وهي تبنى على التركيز والاختصار والدقة لتشمل الجسد كله، لأنه إن اشتغل بعفوية  وفوضى سينال منه العياء، خصوصا أن الحمام يعرف بارتفاع حرارته. فالبارع منهم قد لا يتجاوز عشر دقائق في عمله، يقلب خلالها جسد الزبون بمهارة، فيبدأ بظهره في الوقت الذي يكون الوجه معانقا للأرض. ليمر عبر الأطراف العليا فالسفلى ثم يقلب جسد  الزبون على يساره أو يمينه ليحك جانبه الأيسر أو الأيمن كاملا من أعلى الرقبة إلى اخمص القدم. ثم يستلقي الزبون على قفاه ليحك الكسال صدره وبطنه والوجه الثاني للأطراف منتهيا بالجانب الذي تبقى: يسارا أو يمينا. ..
وخلال عملية الحك المنتظمة في إيقاع متوازن يرش  مناطق الجسد المحكوكة بالماء متخلصا من اوساخه، وحين ينتهي من الحك يصب على الجسد كله ماء وفيرا. ويدعو لك بالصحة، تاركا لك إتمام المهمة: استعمال الصابون والشمبو. …ثم ينسل إلى قاعة الإنتظار ليلتقط أنفاسه مترقبا نداء زبون آخر. ..
كل الزبناء يستسلمون للكسال وكأنه طبيب جراح. البعض يدردش معه في أمور عامة بشكل متقطع، والبعض يكتفي بالصمت والتأوه إن قسى عليه بحركة عنيفة. له زبناء ثابتون، أصبح يعرف أجسادهم منطقة منطقة. ويميز بين البخيل منهم والسخي، فيخلص للسخي و يراوغ البخيل ويتحمل صاحب الرائحة الكريهة، كما يقبل على أصحاب الروائح المقبولة.
رغم عفونة المكان فإنه ألف الفضاء رغما عن أنفه لأن الخبز الحار يوجد وسط تلك الأوساخ العفنة. …
*زوشينكو: كاتب روسي.