وثائـق الراحل ” اليوسفي” في أحضــان “أرشيف المغرب” للكاتب الصحفي عزيز لعويسي.
موقع المنار توداي 23 اكتوبر 2020.- بقلم : عزيز لعويسي
قبل أسابيــع، شاء
القدر أن تنطفئ شمعـة الراحل الأستاذ “عبدالرحمان اليوسفي” رحمه الله،
وأن تتوقف عجلة حياته إلى الأبــد، مخلفة وراءها مسارا مشرقا لرجل دولة بارز،
انتـــزع الإجماع في زمن التفرقة واللغط والجدل والخــلاف، وســرق الإعجاب
والمحبـة، في مشهـد سياسي بات بــدون هويــة، وكان لابد لنا – وقتها- أن نحرك
ناعورة القلم لنرصـع قلادة مقاليـن اثنين، حاولنا من خلال الأول (وداعا صاحب
أحاديث في ما جرى .. وداعا سي عبدالرحمان اليوسفي) التعبيـر عما راودنا من مشاعر
الحسرة والحزن والمواساة، في وفــاة قامة من قامات الذاكرة النضاليـة الوطنيـة،
وهامة من هامات رجالات الدولة البارزين الذين أشرقـوا وتميـزوا في زمن البــؤس
السياسي، ونالوا عن جدارة واستحقاق وشـاح التقديــر في جسد حزبي اخترقته فيروسات
المصلحة العمياء والأنانية المفرطة وعــدوى التهافت، بحثا عما باتت تجــود به
الممارسة السياسية من ريــع متعدد الزوايا.
كما حاولنا من
خلال الثاني (أرشيف اليوسفي وأرشيف المغرب) أن نكون سباقين لتوجيــه البوصلة نحو
ما يكون قد تركه الرجل، من أرشيفات خاصة على جانب كبير من الغنى والثــراء، اعتبارا
ليس فقط، لتاريخه النضالي ومساره السياسي والحقوقي، بل و لبصمته في الذاكرة
النضالية الوطنية، ولما تميز به من قيم وشيم وأخلاقيات وطنية وسياسية، باتت اليوم
“عملة نادرة” في زمن الانحطاط السياسي، وقد وجهنا الدعوة عبر ذات
المقال، إلى المؤسسة الحاضنة للأرشيــف العمومي “أرشيف المغرب” من أجل
التفكير في السبل الممكنة والإمكانيات المتاحة التي من شأنها وضــع اليد على
التراث الوثائقي للراحل، مستندين في ذلك إلى ثلاثــة اعتبارات جوهريــة :
– أولها : ما
أناطه بها القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف، من مهام واختصاصات متعددة
المستويات، تتقاطع في “صيانة تراث الأرشيف الوطني والقيام بتكوين أرشيف عامة
وحفظها وتنظيمها وتيسير الاطلاع عليها لأغراض إداريــة أو علمية أو اجتماعية أو
ثقافيــة”.
– ثانيها : ما
أتاحه لها المشرع الأرشيفي من صلاحيات قانونية، تتيح لها وضع اليد على الأرشيف
الخاصة ذات النفع العام، وهو ما عبرت عنه المادة 24 التي نصت على ما يلي : “تؤهل
“أرشيف المغرب” لأجل صيانة تراث الأرشيف الوطني، أن تتملك عن طريق
الشراء وأن تتلقى على سبيل الهبة أو الوصية أو الوديعة القابلة للاسترجاع، أرشيفا
خاصة تتولى حفظها ومعالجتها والتمكين من الاطلاع عليها”.
– ثالثها : تمثل
في قيمة ما يمكن أن يكون قد تركه الراحل، من تراث أرشيفي سواء بمقر سكنه الشخصي أو
على مستوى مقر “حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”، اعتبارا لمسيرته
النضالية والحزبية والسياسية والحقوقية، التي تشكل مرآة عاكسة للتاريخ النضالي
والسياسي الوطني المعاصر، وكلها اعتبارات وغيرها، ارتأينا – حينها – بعد أيام
قليلـة من وفـاة الراحل، الاستنـاد إليها، للمطالبــة في وقت مبكـر، بأهميــة
الالتفـات إلى ما يكون قد تركه الرجل من تراث أرشيفي تاريخي وسياسي، وبأحقيــة هذا
التراث في الرعاية والحفظ والائتمان لقيمة صاحبــه كرجل دولة بارز بكل المقاييــس،
قلما تجــود السياسة بمثلـه.
ونحن نفتح بجرأة
“أرشيف اليوسفي” أياما قليلة بعد رحيلــه، كان سقف أحلامنا أن تتحرك
“أرشيف المغرب” و ذوي الحقوق (أرملة الراحل أطال الله في عمرها)
و”الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”، في اتجاه ائتمان المؤسسة الحاضنة
للأرشيف العمومي، على التراث الوثائقي للراحل والذي يمكن استثماره كمادة للاشتغال
العلمي من قبل الباحثين والمؤرخيـن، ولم نكن نتصور قطعا، أن الراحل رحمه الله، قد
ترك – حسب ما أوردته جريدة “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” (عدد
12.673 ليوم الخميس 22 أكتوبر2020)- وصيــة، تضم شقين، أولهما متعلق بالجانب
المالي والموروث العيني المتعلق بشقته وما تتضمنه من مكتبة وأثاث وصور وأوسمة وكتب
وتفاصيل أخرى، ستوجه نحو مؤسسة “متاحف المغرب” المؤهلة لحفظ التراث اللامادي
للمغاربة والمغرب، بما يضمن حسن التعامل مع هذا المــوروث وجعله تحت تصرف عموم
الجمهور، وشـق ثان، يتعلق بمنـح وثائقه ذات الحمولة التاريخيــة إلى مؤسسة
“أرشيف المغرب” المؤهلة للتدبير الأمثل لهذه الوثائــق، وجعلها رهن
إشارة الباحثيــن والمؤرخين، فضلا عن تحويل شقته إلى “متحف مفتــوح” كما
ورد في ذات الجريـدة.
قراءتنا لهذا
الخبر، قوت في عوالمنا ما نكنه للرجل من ثقة ومحبة وإعجاب وتقدير، وهي أحاسيس
صادقة لا يتحكم فيها أي انتماء حزبي من شأنه أن يتحكم في القلم ويكبــح جماح
مداده، ليس أمامنا من خيار ســوى الجنوح إليها، في زمن سياسي مشهده لم يعد يسـر
الناظرين، وفي ظل واقع حزبي لم يعد يفرخ ســوى البؤس والعبث والأنانية المفرطة
واللغط والقلاقل والنعرات والخيبات والزلات، فما تركه الراحل من وصية
“مواطنة”، قد يبدو للبعض ممارسة مألوفة واعتياديـة، وقد يبدو للبعض
الآخر حدثا عابرا لا يؤخر ولا يقدم بعد رحيل الرجل، لكن نرى أن الوصية لا يمكن
تجاوزها أو تجاهلها أو نكرانها أو التقليل من شأنها، لأنها “رسالة مفتوحة في
المواطنة الحقة” و”درس آخر من دروس الوطنية التي ما فتئ الراحل يلقنها
للمغاربة” كما علق الأستاذ “جامع بيضا” مدير “أرشيف
المغرب” وهو يعلن خبر ائتمان المؤسسة على وثائق الراحل “اليوسفي”،
وشهادة ثقة واعتراف بالمؤسسات الوطنية (متاحف المغرب – أرشيف المغرب)، ونكران
للذات، واستحضار تام للمصلحة العامة، بوضــع بعض موروثه العيني والوثائقي رهـن
إشارة المؤرخين والباحثين وعموم الجمهور، إيمانا منه أن ما خلفه هو جزء لا يتجزأ
من الذاكرة النضالية والسياسية الوطنية، ومكانه الطبيعي هو المؤسسات الوطنية ذات
الاختصـــاص، ليكون في متناول جميــع المغاربة على قدم وســاق، ورؤيـة متبصرة،
حاملة لقناعة راسخــة في أن حماية “التراث الوطني” بكل مستوياته، هي
مسؤولية فردية وجماعية، لابد أن ينخرط فيها الجميع بوعي وإدراك، صيانة لتاريخنا
الوطني وحماية لذاكرتنا الجماعية وصونا لهويتنا المشتــركة.
وصية الراحل
“اليوسفي” رحمه الله، قد تكون خير تتويج لقصة حياة على مستوى كبير من
الثراء والإشراق، وقد تكون امتدادا لسيرة الرجل التي نالت التقدير وسرقت الإجماع
في زمن الاختــلاف، لكنها وبدون شك، شكلت “مسك ختام” لمسار طويل من
النضال، صنع لنا رجلا من رجالات الدولة البــارزين، بقدر ما تميز بقــوة وقيمة
رصيده السياسي والحقوقي، بقـدر ما انفـرد بأخلاقيات السياسة، وبقيم المواطنة الحقــة
وما يدور في فلكها من التزام واتزان ونزاهة وتحفظ ومسؤولية وعفة وتضحية ووفاء
ونكــران للذات، وحتى وهو يعيــش آخر أيامه، لم تغب عنه “شمـس
المواطنة”، وأصر وهو يعيش آخر أنفاس مساره المشرق في زمن الجائحة، إلا أن
يختزل كل أحاديثه (أحاديث في ما جرى) في “وصيـة”، لايمكن فهم مضامينها
ورسائلها، إلا داخل بلاط “المواطنة” ورحاب “حب الوطن”، فكما
تنازل الرجل عن الريع وما يجري في فلكه وهو على قيد الحياة، أصر بعد الممات، أن
يتنازل عن موروثه من أجل الوطن، فهنيئا لمؤسستي “متاحف المغرب”
و”أرشيف المغرب” باحتضان جزء من حياة رجل، يعد “فلتة” من
فلتات السياسة في زمن الركود والتراجع والانحطاط .
ونختم بتجديد
الرحمات على فقيد الوطن “الأستاذ عبدالرحمان اليوسفي” رحمة الله عليه،
سائلين الله عز وجل أن يشمله بواسعه رحمته ومغفرته، عسى أن تكون “وصيته”
درسا للمفكرين والمثقفين والمبدعين المغاربـة، الذين لابد أن يلتفتوا إلى المؤسسات
الوطنية المعنية بحفظ التراث بكل مستوياته، بائتمانها على ما يتحوزون به من
ممتلكات عينية وأرصدة أرشيفية ذات نفع عام، وعبـرة لكل السياسيين الذين لا يجدون
حرجا في الركض في مضمار “العبث” و”الريع” بعيدا عن سكة الوطن
… فطوبى لمن رحل وقد أحسن للوطن، وبئــس لمن لازال مصرا على العبث بجسد الوطن
بدون خجل أو حيــاء …
الكاتب ..عزيز
لعويسي المحمدية المغرب
Laaouissiaziz1@gmail.com